التعذيب لا يتوقف في سجون العسكر.. انتزاع اعترافات.. تلفيق اتهامات للأبرياء.. صدور أحكام تصل إلى الإعدام.. لماذا كل هذه الجرائم والانتهاكات؟ ومن يتحمل مسئوليتها؟  

الطالب السوداني "وليد عبدالرحمن"، الذي أطلق سراحه، مؤخرا فضح نظام العسكر وكشف عن أنه أجبر على قراءة اعترافات والإدلاء بأقوال عن أفعال لم يرتكبها.

وقال "عبدالرحمن": "كل ما قيل في الإعلام كان خارج إرادتي تماما.. كان يتم تلقيني".

ونفى كل ما تناوله إعلام العسكر حول علاقته بالمظاهرات التي اندلعت في القاهرة، الشهر الماضي، وقال: "تم إجباري على الإدلاء بأقوال رغما عني".

وأضاف: "تم إملائي نصًّا مكتوبًا، ودربوني على حفظه كاملاً بالنص"، لافتًا إلى أن هذا ما يفسر أنه تكلم في الفيديو الذي عرض بالإعلام باللهجة المصرية.

وتابع: "قرأت النص كما كتبوه لي بالكامل من الحرف للحرف".

ولفت إلى أنه لم يذهب إلى مصر "للمشاركة في ثورة"، ولكن لدراسة اللغة الألمانية بغية الحصول على منحة في ألمانيا.

سامحي مصطفى

النماذج التي تعرضت للتعذيب في سجون العسكر كثيرة، منها الإعلامي سامحي مصطفى الذي ظل على مدار 50 يوما قضاها بمقر الأمن الوطني بمحافظة بني سويف بملابسه التي ذهب بها للأمن الوطني، ودون استحمام، حتى تم إطلاق سراحه.

ويقدم مصطفى جزءًا من شكل حياة المختفين قسريًا خلال فترة إخفائهم بمقار الأمن الوطني، مشيرًا إلى أنه بعد انتهاء عقوبة السجن 5 سنوات، التي قضت بها محكمة الجنايات في القضية الشهيرة بغرفة عمليات رابعة، تم ترحيله لمقر الأمن الوطني بمحافظته.

وحسب مصطفى، فإن الأيام الأولى له بمقر الأمن الوطني بمحافظة بني سويف كانت قاسية جدًّا؛ حيث تعرض لتهديدات بالعودة للسجن مرة أخرى، وتهديدات أخرى ضد أسرته إذا لم يتعاون معهم وينفذ ما يطلبونه منه، مؤكدًا أنه طوال الـ50 يومًا التي قضاها بالأمن الوطني كانت صلته مقطوعة بالعالم الخارجي.

وعن الحياة التي يعيشها المختفون قسريًا، يوضح أن كل شيء ممنوع أثناء فترة الإخفاء؛ لأن الأصل في الذين يتم خطفهم وإخفاؤهم أنهم ليسوا بحوزة الشرطة، وبالتالي لا يجوز صرف التعيين الميري لهم، ويعوضون ذلك باستقطاع جزء من تعيين المجندين الذين يؤدون فترة خدمتهم العسكرية.

ويؤكد أن التعيين لا يتجاوز رغيف خبز في اليوم وقطعة جبنة لا تتعدى 5 جرامات، وفي بعض الأيام يتم إعطاؤهم جزءا من وجبة الفول، التي يتم صرفها للمجندين بدلاً من إلقائها في القمامة؛ لرفض المجندين تناولها لقذارتها.

ويتذكر مصطفى أن أحد المعتقلين شعر بمغص شديد، "فأعطاه المخبر برشامة واحدة مضاد حيوي"، واشتكى معتقل آخر بتورم في قدمه، فصرفوا له نفس نوع البرشامة، وعندما اشتكى ثالث من حساسية مفرطة نتيجة الرطوبة، لم يجد سوى نفس البرشامة، فهي نوع واحد يتم صرفه في حالة الضرورة القصوى.

وحسب مصطفى، فإن الاستحمام محرم بمقر الأمن الوطني في بني سويف، خاصة أن المكان ليس مخصصا لاستيعاب الأعداد الكبيرة التي يتم إخفاؤها لفترات تصل لعدة أشهر، كما أن المختفين ليس معهم إلا ملابسهم التي اعتقلوا بها، وينتظرون أي وافد من السجن للحصول على ما لديه من ملابس، على اعتبار أنه سيخرج لأهله عاجلا أو آجلا. أما هم، فلا يعلم مصيرهم إلا الله.

حسام الوكيل

حسام الوكيل باحث مختص بالمجتمع المدني، نموذج آخر يقدم شهادته لنوعية أخرى من حياة المختفين قسريًّا؛ حيث تعرض الوكيل لنوعين من الإخفاء، الأول كان بمقر المخابرات الحربية بمدينة نصر، والثاني بمقر الأمن الوطني بالإسكندرية.

ويؤكد الوكيل الذي تم اعتقاله في 29  ديسمبر 2017، من مقر سكنه بمحافظة الإسكندرية، وتم ترحيله مباشرة وهو معصوب العينين لمكان مجهول، عرف بعد 32 يومًا أنه مقر المخابرات الحربية بمدينة نصر.

ويشير إلى أنه فور دخوله مقر المخابرات، أخذوا منه كل ملابسه، وأعطوه بيجامة زرقاء مصنوعة من قماش خفيف جدًّا، رغم أنهم كانوا في منتصف الشتاء، وقام أحد الأطباء بتوقيع الكشف عليه؛ للتأكد من عدم وجود أي أمراض يعاني منها قد تستلزم الحذر في التعذيب، ثم حبسوه في غرفة لا تتعدى مساحتها 2 × 1.5 متر، شديدة الإضاءة لتهيج أعصابه ليلاً ونهارًا، ولم يكن بالغرفة أي فرش أو مستلزمات باستثناء زجاجة مياه صغيرة.

وطوال هذه الفترة ظل الوكيل مكبّل اليدين والقدمين بكلبشات حديدية، ولم يسمح له بدخول دورة المياه إلا 3 مرات يوميًّا، والاستحمام بمياه باردة، مرة واحدة كل يوم جمعة، ولمدة 5 دقائق، تشمل الاستحمام وقضاء الحاجة وتبديل الملابس وتعصيب العينين، وإعادته لزنزانته مرة أخرى.

وعن التعذيب بمقر المخابرات، يشير الوكيل إلى أنه فاق كل شيء؛ حيث تم التحقيق معه طوال 25 يوما، وفي كل يوم يتم التحقيق فيه يتعرض لتعذيب بشع، مثل التعليق، والصعق بالكهرباء (الكترك - السلك - الكرسي)، بمتوسط 4 أو 5 ساعات في المرة الواحدة، وبشرط حضور الطبيب.

وعن دور الطبيب، يقول الوكيل: "يكون موجودًا للتدخل إذا فقد الوعي، أو حدثت مضاعفات نتيجة التعذيب"، مشيرًا إلى أنه في إحدى المرات تعرض للإغماء من شدة التعذيب، فقام الطبيب بإفاقته، ثم أمرهم باستكمال التعذيب، وفي مرة أخرى قام بالتمثيل بأنه فقد الوعي لتخفيف التعذيب، فكشف عليه الطبيب، وقال لهم إنه سليم، واستكملوا التعذيب في وجوده.

وظل الوكيل مختفيا بمقر الأمن الوطني بالإسكندرية لمدة 68 يوما، تم التحقيق معه فيها لمدة 20 يوما، وباقي المدة تم تخزينه حتى يتم تجهيز قضية له، موضحا أن الوضع بالأمن الوطني كان أقل في كل شيء، حتى في مستوى النظافة، لكنهم كانوا يسمحون لهم بالاستحمام لمدة 3 دقائق عدة مرات بالأسبوع، كما سمحوا بوجود سجادة صلاة، على عكس المخابرات الحربية، بالإضافة إلى أنهم أكثر حرفية في التعذيب والتحقيق، بمعنى أنهم يعرفون كيف يعذبون دون حدوث مشكلات تستدعي وجود طبيب، على عكس الوضع بالمخابرات الحربية.

كوميتي فور جستس

وعلى مستوى منظمات المجتمع المدنى كشفت إحصائيات موثقة أصدرتها منظمة "كوميتي فور جستس" (مؤسسة حقوقية مصرية مستقلة) في تقرير لها عن مراقبة مراكز الاحتجاز - الرسمية وغير الرسمية - خلال مارس وأبريل 2019 عن ارتكاب سلطات الانقلاب 1099 انتهاكا بحق المعتقلين في مقار الاحتجاز مؤكدة استمرار إهدار حقوق الإنسان والقانون والدستور.

وبحسب التقرير، رصد فريق المراقبة في المنظمة 1099 انتهاكا، منها 877 حالة انتهاك خلال مارس 2019، و220 انتهاكا في أبريل 2019، بالإضافة إلى حادثتي تعذيب.

وتصدر كل من الاعتقال التعسفي والإهمال الطبي قائمة الانتهاكات، كما سجل سجن طرة شديد الحراسة وسجن القناطر للنساء أكبر عدد من الانتهاكات خلال هذين الشهرين.

وفي مارس 2019 رصدت "كوميتي فور جستس" 470 حالة إخفاء قسري، وتصدرت محافظة اﻟﺸﺮﻗﻴﺔ قائمة الانتهاكات بعدد 75 حالة إخفاء قسري، وكذلك 121 حالة اعتقال تعسفي شملت 29 أنثى و18 قاصرا، بالإضافة إلى 7 ناشطين عماليين و5 محامين حقوقيين وناشطين سياسيين، وسجلت محافظة القاهرة في مارس 2019 أكبر عدد من حالات الاعتقال التعسفي بعدد 47 حالة.

كما رصد التقرير في هذا الشهر ثلاثة حوادث قتل نتج عنها وفاة 10 أفراد، بالإضافة إلى رصد 8 حالات وفاة داخل 7 مراكز احتجاز مختلفة، و57 حالة إهمال طبي داخل 9 مراكز احتجاز مختلفة، و8 حالات حبس انفرادي و164 حالة سوء أوضاع احتجاز، و39 حالة تعذيب في 5 حوادث داخل 4 مقار احتجاز مختلفة، وسجل سجن طنطا العمومي أعلى عدد من تلك الحوادث بواقع 36 حالة.

وتصدر الإخفاء القسري قائمة الانتهاكات بحسب التقرير في أبريل 2019، فمن أصل 220 حالة رصدت "كوميتي فور جستس" 55 حادثة إخفاء قسري، وتصدرت ﻣﺤﺎﻓظة اﻟﺸﺮﻗﻴﺔ قائمة الانتهاكات بعدد 32 حالة، في حين جاء الاعتقال التعسفي وسوء أوضاع الاحتجاز في المرتبتين الثانية والثالثة على الترتيب، بعدد 49 حالة اعتقال تعسفي، و29 حالة سوء أوضاع.

ورصد التقرير 6 حوادث في أبريل 2019 بواقع 22 حالة وفاة، و8 حالات وفاة داخل مراكز الاحتجاز، 6 منها بسبب الإهمال الطبي، و2 بسبب الانتحار، و24 حالة إهمال طبي داخل مراكز الاحتجاز.

ووفقا لفريق التوثيق في المؤسسة، فإن من بين جميع الحالات التي تم رصدها خلال مارس وأبريل 2019 تم توثيق 71 انتهاكا ضد 43 معتقلا وقعت داخل 15 مركز احتجاز بمختلف أنحاء مصر.

مفوضية الحقوق والحريات

المفوضية المصرية للحقوق والحريات رصدت استمرار جرائم التعذيب في أماكن الاحتجاز بشكل ممنهج، من خلال توثيق حالات على مدار سنتين، في إطار مبادرة "خريطة التعذيب" التابعة للمفوضية بالإضافة إلى الاستعانة ببيانات إحصائية أصدرها عدد من المنظمات الحقوقية الدولية والمحلية حول حالات التعذيب في العامين الأخيرين، وعجز التشريعات القانونية عن حماية الضحايا أو إنصافهم في حالات التقاضي.

وكشفت "خريطة التعذيب" عن تنوع وسائله التي تستخدم بشكل أساسي في مقرات الأمن الوطني، وفي أقسام الشرطة والسجون وغيرها من مقرات الاحتجاز، ما بين التعذيب الجسدي بشكل مباشر مثل الضرب والصعق بالكهرباء والتعليق من اليدين أو القدمين، أو بشكل غير مباشر مثل الحرمان من تناول الطعام أو من النوم أو من الزيارة أو الحبس الانفرادي لفترات طويلة، أو التهديد بخطف وتعذيب أفراد أسرة الضحية.

وفي بعض الحالات كان هناك تهديد بالاغتصاب خاصة مع النساء، أو التحرش الجسدي أو الإجبار على مشاهدة ضحية تعذيب أخرى، أو الاستماع لصوت صراخ الضحايا أثناء التعذيب. كل هذا تنتج عنه آلام جسدية ونفسية عميقة الآثر لا يتخلص منها الضحية حتى بعد الإفراج عنه، فيظل الضحايا في ألم جسدي ونفسي عميق يمنعهم من العودة إلى مزاولة الحياة الطبيعية.

وأكد تقرير أعدته المنظمة بعنوان "كابوس التعذيب في مصر.. عقبات قانونية وقضائية تحول دون إنصاف ضحايا التعذيب" أنه من بين 80 حالة تعذيب وثقتها مبادرة "خريطة التعذيب"، هناك حالة واحدة فقط استعانت بالقضاء. واعتمد التقرير في منهجيته لتحديد إشكاليات التقاضي على المقابلات المعمقة كأداة من أدوات البحث؛ حيث تم إجراء مقابلات فردية مع محامين يعملون مع ضحايا تعذيب، ليصل التقرير إلى وجود عوائق تواجه الضحية لإثبات جريمة التعذيب، بداية من ممارسات الشرطة كتأخير عرض الضحايا على النيابة أو على الطب الشرعي لحين زوال آثار التعذيب، مرورًا بدور النيابة في التحقق من جريمة التعذيب وتقديم مرتكبيها للعدالة، وأخيرًا تناول التقرير العقبات الناتجة عن الثغرات القانونية في المواد الخاصة بالتعذيب في قانون العقوبات وقانون الإجراءات الجنائية.

وانتقدت المنظمة  موقف دولة العسكرمن معالجة الثغرات القانونية في التشريعات ذات الصلة بجرائم التعذيب، مؤكدة أنه رغم تلقي حكومة العسكر توصيات خلال الاستعراض الدوري الشامل في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بتعديل التشريعات الوطنية المتعلقة بجرائم التعذيب خاصة تعريف التعذيب في القانون المصري لتتواءم مع التشريعات الدولية، فإن حكومة العسكر لم تتخذ أي خطوات على المستوى التشريعي، كما لم تستجب للمقترحات بشأن تعديل الإطار القانوني ذات الصلة بجرائم التعذيب.

كما رصد التقرير تعامل القضاء والنيابات مع شكاوى ودعاوى التعذيب من خلال تحليل عدد من الحالات؛ إذ يشير إلى وجود نمط من الأحكام المخففة في قضايا التعذيب؛ بسبب قصور المواد القانونية، فيجري استخدام مصطلح "ضرب أفضى إلى موت" أو "استعمال القسوة" لتخفيف العقوبة في حالات التعذيب المفضية إلى موت، ويشير إلى قبول المحكمة للاعترافات المنتزعة تحت التعذيب، كما في حالة قضية النائب العام، والتي على إثرها أعدم 9 ابرياء.