لقد تابعنا بأسى حالات الانتحار التي تزايدت معدلاتها بين المسلمين في أكثر من بلد من بلادنا العربية، أكثرها بسبب قسوة الحياة وشظف العيش، وبعضها بسبب ضغوط نفسية واجتماعية، تجعل صاحبها ينوء بالحياة.

وقديمًا قال المنفلوطي: "الانتحار منتهى ما تصل إليه النفس من الجبن والخور، وما يصل إليه العقل من الاضطراب والخبل، وأحسب أن الإنسان لا يقدم على الانتحار، وفي رأسه ذرة من العقل والشعور".

إن الانتحار قرار بالاستقالة من الحياة كلها، وانسحاب من الدنيا على اتساعها، وضيق بالدنيا وأهلها، ولئن حرم الإسلام الانتحار فإنه مع ذلك حرم الأسباب المفضية إليه، فقد كره النبي صلى الله عليه وسلم للمرء مجرد أن يتمنى الخلاص من الحياة، ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه، فإن كان لا بد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي" (متفق عليه).

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن التبرم من الحياة وتمني الخلاص من الدنيا سيكثر في آخر هذا الزمان، فقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان: "لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانه"، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، فها هي معدلات عمليات الانتحار في زيادة مطردة.

لقد نهى القرآن عن الانتحار، فجاء فيه: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً {29}) (النساء)، وقد استشهد أحد الصحابة بالآية على تحريم قتل النفس بمحضر النبي صلى الله عليه وسلم فأقره، ففي سنن أبي داود أن عمرو بن العاص رضي الله عنه تيمم في يوم شديد البرد ولم يغتسل، وذلك في غزوة ذات السلاسل وصلى بالناس، وبلغ ذلك رسول الله، فسأله وقال: يا رسول الله، إن الله يقول: ولا تقتلوا أنفسكم.

الترهيب من الانتحار

وقد نصت السُّنة الشريفة على تحريم الانتحار في غير حديث، منها:

1- روى الشيخان من حديث جندب البجلي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان ممن كان قبلكم رجل به جرح فجزع، فأخذ سكيناً فحز بها يده، فما رقأ الدم حتى مات، قال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة".

2 – روى الشيخان من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً ً، ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو مترد في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً".

3- روى الشيخان من حديث أبي هريرة قال: شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل ممن يدعي الإسلام: "هذا من أهل النار"، فلما حضر القتال قاتل قتالاً شديداً فأصابه جراح، فقيل: يا رسول الله، الذي قلت آنفاً: إنه من أهل النار قد قاتل قتالاً شديداً وقد مات، فقال صلى الله عليه وسلم: "إلى النار"، فكاد بعض المسلمين أن يرتاب، فبينما هم على ذلك إذ قيل له: إنه لم يمت ولكن به جراحة شديدة، فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فأخذ ذباب سيفه فتحامل عليه فقتل نفسه، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "الله أكبر أشهد أني عبد الله ورسوله"، ثم أمر بلالاً فنادى في الناس: "إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وإن الله تعالى ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر".

والأحاديث فيها ترهيب مخيف، ووعيد شديد في قتل النفس حتى لو كان فاعل ذلك مجاهداً في سبيل الله، وقد اتفق أهل السُّنة على أن الانتحار كبيرة من الكبائر، وعلى أن قتل النفس أشد إثماً من قتل الغير، كما ذهب أهل السُّنة إلى أن المنتحر لا يكفر بانتحاره، وأن سبب خلوده في النار أنه مات على كبيرته دون أن يتوب منها، ومعلوم أن مرتكب الكبيرة عند أهل السُّنة إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه، وإن كان المعتزلة يقطعون بأنه في نار أبدية، لكنهم يقولون: إن عذابه دون عذاب الكافر.

ربما غفر الله له

وقد ورد حديث يفيد أن المنتحر ربما غفر الله له، وذلك ما رواه مسلم من حديث جابر قال: لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هاجر إليه الطفيل بن عمرو، وهاجر معه رجل من قومه، فاجتووا المدينة فمرض فجزع، فأخذ مشاقص فقطع بها براجمه فشخبت يداه حتى مات، فرآه الطفيل بن عمرو في منامه وهيئته حسنة، ورآه مغطياً يديه، فقال له: ما صنع بك ربك، قال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: ما لي أراك مغطياً يديك؟ قال: قيل لي: لن نصلح منك ما أفسدت، فقصها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وليديه فاغفر".

والحديث يحول دون قطع الأمل في عفو الله ومغفرته للمنتحر، ولعل ذلك يختلف باختلاف الأشخاص من حيث قوة الدافع أو شدة ذهول النفس وغمرة الغضب التي يستغلق معها العقل فيكون مثل حالة المستغلق الذي رفع الشرع عنه وقوع الطلاق، أو تحكم الاكتئاب النفسي الذي يستولي على النفس فيمنعها من المقاومة، أو يكون بحسب تاريخ الشخص من الصلاح والتقوى، أو يكون بحسب تأوله، فلعل بعضهم يكون له تأول يغفره الله له، وإن كان الفقهاء قد ذكروا أن من أقدم على الانتحار معتقداً جوازه فقد كفر؛ لأنه أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، إلا أن هذه القاعدة ثبت أنها غير مطردة، فقد رأينا من الفقهاء من يجيز الانتحار للأسيرة درءاً للاغتصاب عن نفسها تقديماً للعرض على النفس في الحفظ، ومنهم من أجاز للأسير قتل نفسه إن خشي أن يحصل أعداؤه على معلومات تضر بالمسلمين.

ولا يمكننا هنا أن نتغافل عن الشخص الذي يلجئ المنتحر إلى هذا القرار، فإن عليه من الإثم بقدر ما على المنتحر، ورحم الله عمر بن الخطاب الذي كان يخشى أن يسأله الله عن بغلة عثرت، وهذه ليست بغلة عثرت بل نفس انتحرت!