بقلم: صادق أمين

مما أُثر عن الإمام يحيى بن معاذ الرازي - رحمه الله - قوله، وهو يخبرنا عن قوم من الأولين، قالوا فصدقوا، عملوا فأخلصوا، فوصلوا وجازوا: "على قناطر الفتن جاوزوا إلى خزائن المنن".

جميل هذا الفقه الذي يزاوج بين الابتلاءات والفتن، والعطايا والمنن، ويراها خزائن ملأى بالخير والفضل.

يحل البلاء ويحل معه الاستبشار بالخيرات، فالبلاء علامةُ رضا وقبول، فإن الله سبحانه وتعالى إذا أحب عبدًا ابتلاه، كما أخبر الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وإذا حل الابتلاء فهذا في ميزان العبد المؤمن موعد الامتحان، وفي الامتحان يُكرم المرء أو يهان.

فالابتلاء موطنٌ عظيمٌ يمتحن الله فيه عبده، يمتحن صبره، صدقه، إخلاصه.. يمتحن ثباته، عزمه، مضاءه، تضحيته.. وصدق الله العظيم ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ﴾ (العنكبوت: 2)، وهذه سنة الله في الدعوات وأصحابها ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ (العنكبوت: 3).

فهو امتحان تعددت صوره، وتنوعت وسائله، لا يسلم منه شيء، ولا ينجو منه عرض، كلٌّ خاضعٌ للابتلاء، وكل مادة رئيسة في الامتحان.. ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾ (البقرة: 155) ونتيجة هذا الامتحان نتيجة واحدة لا غير، لا يستحق فيها غير الصابرين ذكراً، فلهم وحدهم البشرى ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة: 155).

نعم يحل البلاء فتستبشر به القلوب المؤمنة، وتطمئن به النفوس الصابرة وترضى به، فلا تقول ألسنتهم إلا خيرًا، ولا تنطق إلا ذكرًا..﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾ (البقرة: 156).

يحل البلاء ويحل معه عند المؤمن واجبُه، وواجبُه في إكرامه، ولا يكون إكرامه إلا بالشكر والصبر عليه، ومن كان هذا شأنه في زمن الابتلاءات والمحن حقَّ له أن يغرف من خزائن العطايا والمنن.

أقفال خزائن المنن مفتاحها الصبر في زمن الفتن.. من صبر فتحها، ومن صبر استمتع بهداياها العظيمة وعطاياها الثمينة، فمن ملك مفتاحها فاز بغنائم لا تُعَد، وفضائل لا تُحصى، وما ذهب الفضل عنا إلا حين قلَّ صبرُنا، وكثُر جَزَعُنا في مواطن الابتلاءات والفتن، وستبقى هذه الخزائن عصيةً على من يقلُّ صبرُه، ويعظُم جزعُه، ويشتد حزنُه عند حلول المصيبة أو الفتنة، فيجتمع عليه عندئذ الشديدان.. الفتنة والحرمان.. ولا خيرَ في زمن يجتمع فيه هذان الاثنان على المرء.

حين لا نؤمن بضرورة عبورنا قناطر الفتن يومًا ما يطول فيها مكثنا أو يقل فإننا نعاكس عندها سنن الكون الثابتة، التي لا تتغير ولا تتبدل ولا تجامل ولا تداهن، بل من صادمها صدمته، ومن عاكسها عكسته، ومن حاربها محقته.

نعم.. أقفال خزائن المنن لا يفتحها إلا مَن كان له مثل هذا الفقه الرائع، في مروره بقناطر الفتن؛ إذ يطول صبره ويعظُم احتسابه.. بل يكون صبره في أجمل صوره.. ﴿وَجَآؤوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ (يوسف: 18).

صبرٌ جميلٌ وإن عظمت المصيبة، واشتد الكرب، فمع فقْد الولد مع فقد المال مع اعتلال الجسد وسوء الحال.. مع كل ذلك صبرٌ جميلٌ، والله المستعان..

نعم صبرٌ جميلٌ، مفتاح خزائن المنن لمن أراد الدنيا والآخرة، في الدنيا الهدوء والطمأنينة، وفي الآخرة الأجر وحسن العاقبة.

الصبر في قناطر الفتن الجسر الآمن الموصل إلى خزائن المنن، ولكن ما أقلَّ الواصلين لقلة الصابرين!!