في ذكرى استشهاده

توطئة

أقامت الجامعة الأمريكية في القاهرة حفلاً لخريجيها في عام (1351هـ= 1932م)، ووقف شاب صغير لم يتجاوز الرابعة والعشرين خطيبًا أمام المدعوين، فقال ما لم يكن يخطر ببال أحد، قال: "إن هذه الجامعة تظهر أمام الناس في مظهر المدرسة العلمية؛ لكنها في الحقيقة تعمل لإفساد العقائد"، وقد طالب المصريين بمقاطعة الجامعة.. وإثر ذلك قامت ضجة كبيرة، واضطرب نظام الحفل، وكان بطل هذا اليوم هو "عبدالقادر الحسيني"، الذي قدر له أن يقود حركة (الجهاد المقدس) في فلسطين.

"عبدالقادر الحسيني" في سطور

- ولد في إستانبول عام (1326هـ= 1908م).

- عاش في بيتٍ وطنيٍّ، وتلقَّى تعليمه الابتدائي والثانوي في القدس، وتلقى تعليمه العالي في الجامعة الأمريكية بالقاهرة.

- اشتغل بالصحافة فترة قليلة، ثم تفرغ بعد ذلك للجهاد.

- كان على رأس مجلس قيادة التنظيم السري الذي أعد لثورة فلسطين الكبرى عام 1936م.

- استمرت الثورة أكثر من خمسة أشهر، وخاض "الحسيني" معارك ضد الصهاينة اليهود.

- وفي إحدى معاركه أُصيب بجرح بالغ وتلقَّى العلاج في دمشق.

- اشترك "الحسيني" في ثورة "رشيد عالي الكيلاني" عام (1360هـ= 1941م).

- تعرض للاعتقال في بغداد عدة سنوات حتى أفرج عنه عام (1363هـ= 1943م).

- أقام فترة في السعودية، ثم انتقل إلى القاهرة، واتصل بجماعة (الإخوان المسلمون).

 - بعد قرار التقسيم اختير قائدًا عامًّا لقوات الجهاد المقدس في فلسطين.

- قاد "الحسيني" معارك عديدة ضد الصهاينة اليهود، وحقَّق انتصارات باهرة.

- حاول "الحسيني" الحصول على أسلحة كافية من جامعة الدول العربية؛ لكنه لم يجد ما كان يرجوه ويأمله.

- خاض "الحسيني" آخر معاركه في (القسطل) عام (1367هـ= 1948م)، ورزقه الله الشهادة فيها.

المولد والنشأة

ولد "عبدالقادر بن موسى بن كاظم الحسيني" في إستانبول في عام (1326هـ= 1908م)؛ حيث كان والده يشغل عضوية مجلس (المبعوثان) في الدولة العثمانية، ولما دعا إلى القدس بعد أن انتهت خدمته كان "عبدالقادر الحسيني" في الثامنة عشرة من عمره.

وفي العام الذي عاد فيه عُقِدَ المؤتمر العربي الأول في القدس عام (1338هـ= 1919م) انتخب "السيد موسى" رئيسًا للمؤتمر، ثم رئيسًا للجنة التنفيذية التي انبثقت عنه، وظل في هذين المنصبين قائدًا للحركة الوطنية في فلسطين حتى عام (1352هـ = 1933م) عندما أُصيب في القدس بجرح خلال مظاهرة وطنية، وكان عمره آنذاك ثلاثة وثمانين عامًا، ثم اضطرته ظروفه الصحية إلى الاعتكاف في (أريحا) حتى لقي ربه في (8 من المحرم 1353هـ= 23 من مارس 1934م).

وقد تلقى "عبدالقادر" تعليمه الابتدائي والثانوي في (روضة المعارف الوطنية) بالقدس، ثم استكمل تعليمه في القاهرة، والتحق بقسم الصحافة والعلوم السياسية بالجامعة الأمريكية، وفي الوقت نفسه اتصل بالحركة الوطنية التي كان يموج بها الشارع المصري في هذه الفترة، وبخاصة حزب (الوفد)، كما مارس نشاطه السياسي من خلال (رابطة الطلبة الشرقيين)، واكتشفت خطورة الدور السياسي الذي تلعبه الجامعة الأمريكية التي يدرس بها، فانتهز حفل التخرُّج الذي أقامته الجامعة، وألقى خطابه الحماسي الذي ندَّد فيه بالسياسة الأمريكية، وبعد عدة أيام وزَّع بيانًا على الصحف المصرية، ضمَّنه اتهاماته للجامعة الأمريكية، وإثر ذلك أصدرت الحكومة المصرية في عهد "إسماعيل صدقي" قرارًا بإجلاء "عبدالقادر الحسيني" عن مصر مع نهاية عام (1351هـ= 1932م).

العمل الوطني

ولما عاد "عبدالقادر الحسيني" إلى فلسطين عمل محررًا في صحيفة (الجامعة الإسلامية)، ثم تركها ليعمل مأمورًا في دائرة تسوية الأراضي في فلسطين، وخلال مدة عمله بها- التي لم تتجاوز عامين- أحبط أكثر من محاولة للاستيلاء على الأراضي عربية.

وفي أثناء هذه الفترة شارك في العمل الوطني، وتنظيم المظاهرات التي كانت تقام في كل مكان في فلسطين ضد الانتداب البريطاني، والهجرة اليهودية التي أخذت تتدفق بشكل سافر على فلسطين تحت بصر الاحتلال البريطاني وحمايته، فكان إلى جانب والده في مظاهرة القدس، التي اشتعلت في (23 من جمادي الآخرة 1352هـ= 13 من أكتوبر 1933م)، وأصيب فيها بجراح، ومظاهرة القدس الثانية في (8 من رجب 1352هـ= 27 من أكتوبر 1933م)، التي أُصيب فيها والده بجراح كانت سببًا في وفاته.

ثورة فلسطين الكبرى

استقال "عبدالقادر الحسيني" من وظيفته ليتفرَّغ للجهاد، والإعداد للثورة الكبرى عام (1355هـ = 1936م)، وكان على رأس مجلس قيادة التنظيم السري للثورة، الذي يعد لاشتعال ثورة عارمة تزلزل الأرض تحت أقدام المحتلين.

وكانت نقطة البداية في (16 من صفر 1355هـ= 7 من مايو 1936م)، حين أعلن "الحسيني" ورفاقه الثورة، ولجئوا إلى الجبال، وخاضوا أول معركة بأن هاجموا ثكنة بريطانية ببيت (سوريك) شمالي غربي القدس، وتحركت خلايا الثورة في كل مكان على أرض فلسطين، واتخذ "الحسيني" بلدة (بير زيت) مقرًّا لقيادته، وقسَّم فلسطين إلى مناطق، وجعل على كل منطقة منها قائدًا من قادته.

وبلغت الثورة أوج قوتها في (ربيع الآخر 1355هـ= يوليو 1936م)، بعد أن انضم إليها من بقي من رفاق الشهيد "عز الدين القسَّام"، وكانوا من أخلص الناس وطنيةً وأشدها عزيمةً وإصرارًا، ولما ترامت أنباء هذه الثورة سارع كثير من المجاهدين العرب إلى الانضمام إليها ومساندتها، وكان من أثر ذلك أن خاض الثائرون معارك هائلة مع قوات الاحتلال البريطاني وحلفائهم من اليهود الغاصبين، في القدس ورام الله، وبيت لحم والخليل ونابلس وغيرها.

إصابة "الحسيني" وتوقف الثورة

وخاض "الحسيني" أعظم معاركه في وقعة (الخضر) في (18 من رجب 1355هـ= 4 من أكتوبر 1936م)؛ وهي المعركة التي استشهد فيها المجاهد السوري "سعيد العاص"، وقد أُصيب "الحسيني" إصابةً بالغة، وتمكنت القوات البريطانية من أسره، ونقله إلى العلاج في المستشفى العسكري بالقدس، ثم محاكمته بعد أن يتم شفاؤه، لكن رفاقه من المجاهدين هاجموا القوات البريطانية التي تحرس المستشفى في جرأة مدهشة أربكت الأعداء، وتمكنوا من حمل القائد الجريح والتوجه به إلى دمشق لاستكمال العلاج، ثم لم تلبث أن توقفت الثورة الكبرى بعد قتال دام مائة وستين يومًا؛ استجابةً للنداء الذي أصدرته اللجنة العربية الأولى لفلسطين في (27 من رجب 1355هـ= 13 من أكتوبر 1936م).

العودة إلى فلسطين

وبعد أن تماثل "الحسيني" للشفاء، واسترد كثيرًا من عافيته، عاوده الحنين إلى الجهاد، ومقاومة المحتلين، فقرر الرجوع إلى فلسطين، وتسلم قيادة الثورة، وأعلن استئنافها من جديد، وقاد عدة معارك ضارية في القدس وبيت لحم، والخليل، وأريحا، ورام الله، وبير السبع، وجنين، وبيسان، وحيفا، ويافا، وطولكرم، وكبَّد قوات الاحتلال البريطاني خسائرَ فادحةً في الأرواح والمعدات.

وكانت أهم المعارك التي خاضها "الحسيني" في هذه المرحلة هي معركة (بني نعيم) في الخليل في (جمادي الأولى 1358هـ= يوليو 1938م)، ولم يكن معه من المجاهدين سوى ألف يواجهون أكثر من ثلاثة آلاف جندي من القوات البريطانية المزودة بالمصفحات والمدافع والرشاشات الثقيلة، وكانت المعركة غير متكافئة؛ لكن "الحسيني" ومن معه خاضوها بكل بسالة وشجاعة، ودامت المعركة نحو أربعين ساعة، سقط خلالها كثير من الشهداء الأبرار، وعجز الثوار عن الاستمرار في القتال بعد أن تعززت قوات الاحتلال أكثر من مرة بالمؤن والسلاح، فانسحبوا من أرض المعركة، تاركين خلفهم شهداءهم وجرحاهم، وكان من بين الجرحى "الحسيني" نفسه، فنقله زملاؤه إلى المستشفى الحكومي في الخليل؛ حيث قُدمت له الإسعافات الأولية، ثم نقلوه إلى دمشق لإتمام علاجه.

الاشتراك في ثورة الكيلاني بالعراق عام (1358هـ= 1939م)

وظل "الحسيني" في دمشق حتى شُفِيَ من جراحه، ثم غادرها إلى بغداد؛ حيث عمل مدرسًا للرياضيات في المدرسة العسكرية في مدرسة الرشيد، ثم التحق في (1359هـ= 1940م) بدورة لضباط الاحتياط في الكلية العسكرية، وتخرج فيها برتبة ضابط، وحين شنت ثورة "رشيد عالي الكيلاني" في العراق في (صفر عام 1360هـ= مارس 1941م) أبت عليه وطنيته إلا أن ينخرط فيها مع إخوانه العراقيين ضد الاحتلال البريطاني، وشارك مع كثيرين من رفاقه الثوار الفلسطينيين اللاجئين إلى العراق في قتال القوات البريطانية.

وعندما فشلت الثورة حاول "الحسيني" اللجوء إلى إيران مع عدد من رفاقه في الثورة؛ لكن المحاولة لم يكتب لها النجاح، وألقت السلطات العراقية القبض عليهم، وسيق "الحسيني" إلى المحاكمة أمام محكمة عسكرية في بغداد بتهمة أنه ومن معه من الفلسطينيين أوقفوا زحف الجيش البريطاني عشرة أيام، وأخروا وصوله إلى بغداد، وحكم عليه وعلى عدد من إخوانه بالسجن.

بين السعودية والقاهرة

وظلَّ رهن الاعتقال حتى أفرجت عنه الحكومة العراقية في أواخر عام (1363هـ= 1943م) بعد تدخل من الملك "عبدالعزيز آل سعود"، وأقام "الحسيني" في السعودية عامين، ثم ذهب إلى ألمانيا في مطلع عام (1364هـ= 1944م)، وتلقى هناك دورة تدريبية على صنع المتفجرات وتركيبها، ثم انتقل إلى القاهرة مع أسرته في سنة (1946م)، وفي القاهرة اتسع نشاط "الحسيني"، واتصل بالقوى الوطنية والإسلامية، ووثق علاقته بجماعة (الإخوان المسلمون) وزعماتها التاريخية، وعمل على تجميع الأسلحة لصالح المقاومة الفلسطينية، وقام بتدريب بعض الفلسطينيين والمصريين على عمل المتفجرات، وقد أقلق نشاطه الواسع حكومة الحزب (السعدي) في مصر، فحاولت إبعاده؛ لكن الضغوط التي مارستها القوى الوطنية حالت دون تنفيذ ذلك.

قائد الجهاد المقدس

ولما أصدرت الأمم المتحدة قرارها الظالم بتقسيم فلسطين في (15 من المحرم عام 1367هـ= 29 من نوفمبر 1947م) قررت (الهيئة العربية العليا) تشكيل منظمة (الجهاد المقدس) المسلحة، واختارت "عبد القادر الحسيني" قائدًا عامًّا لقوات الجهاد المقدس، فاستجاب "الحسيني" لهذا التكليف، وعاد إلى فلسطين، واختار بلدة (بئر زيت) بالقرب من (رام الله) مركزًا للقيادة العامة، وقام بالاتصال بقادة الجهاد في المناطق المختلفة، وتنظيم السرايا والخلايا الفدائية وفرق القنَّاصة، وبعد أن اطمأن على الأوضاع أعلن الثورة والجهاد المقدس على المحتلين، وأقبل عليه المجاهدون من كل أراضي فلسطين للدفاع عنها.

وعلى الرغم من قلة الأسلحة التي كانت في أيدي المجاهدين، فإنهم حققوا انتصارت باهرة، ونصبوا كمائن ناجحة للقوات الصهيونية، ونسفوا بعض المؤسسات التي يمتلكها اليهود، مثل: مقر (الوكالة اليهودية) بالقدس، و(دار الصحافة الصهيونية)، وتمكنوا من السيطرة على منطقة القدس، والتحكم في طرق المواصلات التي تربط بين أغلب المستعمرات الصهيونية في فلسطين.

"عبدالقادر الحسيني" يستجدي السلاح من العرب

ولمَّا كان من الصعب على "الحسيني" أن يستمر في القتال دون عون ومساندة من الدول العربية، اتجه إلى دمشق التي اتخذتها اللجنة العسكرية للجامعة العربية مقرًّا، وطلب منها تزويده بالسلاح الكافي من مدافع ورشاشات؛ حتى يتمكن من مواجهة اليهود الذين يزدادون قوةً على قوة كل يوم، وحاول بكل الطرق استنهاض حماسة أعضاء اللجنة وإيقاظ وعيهم بخطورة الموقف في فلسطين؛ لكن محاولاته لم تجد تجاوبًا كافيًا.

وفي أثناء ذلك جاءت الأنباء بسقوط قرية (القسطل) في أيدي العصابات الصهيونية، وهي تتحكم في طرق المواصلات، ويهدد سقوطها مدينة القدس نفسها، وقد أبلى المجاهدون الفلسطينيون بلاءً حسنًا في الدفاع عنها، الذي استمر لعدة أيام؛ لكن قلة السلاح ونفاد الذخيرة، وتقاعس الجيس الأردني عن المساندة- وكان قريبًا من ميدان المعركة- أدى إلى سقوط القرية الباسلة.

ولمَّا علم "الحسيني" بهذه الأنباء المُحزنة، وجَّه كلامه إلى "طه باشا الهاشمي"- المشرف العام على جيش التحرير- وعلى تلك اللجنة قائلاً: "يا باشا، إن القسطل حصن منيع، ليس من السهل استرجاعها بالبنادق الإيطالية والذخائر القليلة التي بين أيدينا، أعطني السلاح الذي طلبته منك وأنا أستردها، ولقد كانت خطتي إلى الآن أن أحاصر القدس والمستعمرات اليهودية وباب الواد، وأن أمنع عنهم وصول الإمدادات العسكرية والمؤن، ونجحت خطتي حتى اضطر اليهود أن يموِّنوا رجالهم بالقدس وفي المستعمرات بالطائرات، أما الآن فقد تطور الحال، وأصبح لدى اليهود رجال وطائرات ومدافع، وليس باستطاعتي أن أحتل (القسطل) إلا بالمدافع، أعطني ما طلبت وأنا كفيل بالنصر".

لكن ما طلبه القائد الفلسطيني لم يجد استجابةً عند هؤلاء، وأدرك أنه يخاطب قومًا لا يقدِّرون مسئولياتهم الوطنية، فقال لهم في غضب: "أنتم خائنون، أنتم مجرمون، سيسجل التاريخ أنكم أضعتم فلسطين، (سأسترد) القسطل، وسأموت أنا وجميع إخواني المجاهدين".

بطل معركة القسطل

وعاد "الحسيني" ومعهم ستون بندقية إنجليزية قديمة، وعشرة مدافع، وبضعة قنابل، هي كل ما استطاع انتزاعه من الجامعة العربية ولجنتها العسكرية، وتوجه مع عدد من رفاقه الأبطال لاسترداد (القسطل) من أيدي اليهود.

وقبل أن ينتصف ليل (27 من جمادى الأولى 1367هـ= 7 من إبريل 1948م) شنَّ "الحسيني" ومَن معه هجومًا ما على الاستحكامات المحتلة، حتى دخلوها فاتحين.

ووسط هذا النصر كانت المفاجئة في صباح اليوم التالي، فقد عُثر على "عبدالقادر الحسيني" ملقى شهيدًا عند أول بيت من بيوت القرية.. ووقعت المفاجئة على المجاهدين كالصاعقة، فزلزلت أقدامهم، وأذهبت بثباتهم، فلم يبقَ المجاهدون في القرية سوى ساعات قليلة، تمكن الصهاينة بعدها من احتلال القرية مرة أخرى.

وفي اليوم التالي (29 من جمادي الأولى 1367هـ = 9 من إبريل 1948م) نقل جثمان البطل الشهيد، ودفن جنب أبيه في الضريح الكائن بين (باب القطانين) و(باب الحديد).

------------

أهم المصادر:

• أنور الجندي: تراجم الأعلام المعاصرين- مكتبة الأنجلو المصرية- القاهرة (1970م).

• صالح مسعود أبويصير: جهاد شعب فلسطين خلال نصف قرن- دار الفتح للطباعة والنشر- بيروت (1389 هـ= 1969م).

• فتحي يكن: الموسوعة الحركية- مؤسسة الرسالة- بيروت (1400 هـ= 1980م).

• الهيثم الأيوبي وآخرون: الموسوعة العسكرية- المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت (1981م).

• الموسوعة الفلسطينية.