إن أحزان الحياة كثيرة، وكلها تحتاج لأن يستعين عليها المرء بالإيمان بالله، والتسليم بقضائه وقدره، والأمل الدائم في رحمته، والشجاعة الضرورية لاحتمالها، ومواصلة الرسالة، ولكل إنسان من حياته ما يرضيه ويسعده وما يشقيه ويشكو منه، ولا تكتمل اللوحة أبدًا لأحد من بني البشر.

فالحياة حلقات متصلة من السعادة والألم، وليس هذا دومًا ولا ذاك دومًا.. إنها علاقة متباينة بين إنسان يود أن يحيا بها في سلام وبين قدَر يجب أن نمتثل له ولا نحاربه؛ لكي لا نخسر كثيرًا، وأفضل العبادة انتظار الفرج.

والمحن تنزل بالمؤمن والكافر والصالح والطالح، وإن تنوعت وتغيرت أشكالها وصورها، فهذا يعاني من مرض، وهذا يعاني من عقوق ولده، وهذا يعاني من نشوز زوجه، وهذا يعاني من الفقر، وهذا يعاني من التخمة، وهذا من الخوف.. ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة: 155)، ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ ( الأنبياء :35).

ولا يليق بنا أن نقف عند المحنة نبكي، وإنما علينا أن نكون أقوياء، ونعمل جاهدين على تجاوز المحنة، ودونك الطريق:

1- على كل صاحب محنة أن يضع في حسابه أنها قضاء الله وحكمه، ولا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ* لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ (الحديد: 22-23) ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (التغابن: 11).

2- وعلى كل صاحب محنة أن يُوقن أن القضاء الذي نزل به والحكم الذي أصابه إنما هو أخف وأسهل بكثير من قضاء آخر أعظم منه، وحكم آخر أشق منه كان يمكن أن ينزل به أو يصيبه لولا فضل الله ولطفه ورحمته، وعليه أن يوطن نفسه على الرضا بهذا القضاء والشكر لله ﴿وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ ( لقمان: 12).

3- وعلى كل صاحب محنة أن يوقن أن الذي نزل لا يخلو عن حكمة، وحسن تقدير، إذ ربما كانت المحنة؛ لأن هناك تقصيرًا في جانب من الجوانب في حق الله ودينه، في حق الأبوين، في حق الأهل والأولاد، في حق الأرحام، في حق الجيران، في حق الخدم والأجراء، في حق باقي المسلمين، في حق غير المسلمين من أهل الذمة الذين لهم عهد، وما أكثر الحقوق، وأراد الله أن ينبه عبده عله يتوب بتدارك هذا التقصير، والرجوع إلى الله والإنابة والاستقامة ﴿وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (الأعراف: 168).
 
وقد تكون رَفعًا للدرجات، إذ ربما سبق في علم الله منزلة للعبد لا يبلغها بعمله، وحينئذ يقدر الله عليه المحنة ليرفع من درجاته وليعليه المنزلة التي أرادها له ففي الحديث "إن لله عز وجل إذا أراد بعبد منزلة لم يبلغها بعمل، ابتلاه ثم صبَّره على هذا البلاء، حتى يبلغه هذه المنزلة"، وقد تكون لأن الباطل يرفع شعارات براقة خادعة يصدقها الدهماء والعامة فيقعدوا عن تأييد الحق ونصرته فتأتي المحنة لتذكرهم بالحق والرجوع إليه

4- وعلى كل من لم تنزل به المحنة أن يتوقع المحنة، على اعتبار أنها سنة من سنن الله في خلقه ولن تتخلف، فيعد نفسه ويدربها على كيفية تخطي المحنة إذا نزلت، بالصدق مع الله في حال الرخاء، إيمانًا ويقينًا وتوحيدًا وإخلاصًا، وعملاً على وفق المنهج القويم، فلا شكَّ، ولا رياء، ولا شرك، ولا معصية، ولا إصرار عليها إن وقعت ولا تفريط في طاعة، وشعور دائم بالعجز والخوف من عدم القبول.. إذا فعل العبد ذلك في حال الرخاء، فإن الله- عز وجل- يكون معه يؤيده وينصره في وقت الشدة.

5- وكذلك بالصبر والتحمل، إذ إننا نطلب جنة، ولا نصل إليها إلا فوق جبال من العقبات والمعوقات والمحن والشدائد، وكل المخلوقات التي معنا ومن حولنا إنما تقيم مملكتها وتصنع حياتها بالصبر والتحمل.

6- اليقين بأن المحنة ليست حظنا وحدنا فقط، بل هي حظ الناس من قديم، وعلى رأسهم الأنبياء والمرسلون "أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل..".

هذا آدم ابتلي بالشقاق بين ولديه قابيل وهابيل حتى قَتل أحدهما الآخر، وهذا نوح كانت مصيبته في ولده وامرأته؛ حيث كفرا بالله ورسالته والدار الآخرة، وهذا إبراهيم ابتلي بقومه، والإلقاء في النار، وبذبح ولده، وغير ذلك من صور البلاء، وهذا موسى عليه السلام عانى ما عانى من بني إسرائيل، وهذا يحيى بن زكريا يُذبح وتقدَّم رأسُه ثمنًا لغانية فاجرة، وهذا زكريا يُنشر بالمنشار، وهذا عيسى يُبتلى بالدجالين من بني يهود يريدون قتله، لولا أن الله أكرمه وحماه فرفعه إليه، وهكذا سائر النبيين.. ولما كانت المحنة تصيب الأنبياء والمرسلين، فقد كانت كذلك تصيب أتباعهم من المؤمنين الصادقين.

7- وعلى كل صاحب محنة أن ينظر في محن الآخرين المعاصرين له، ومنها ما هو أشد وأعظم من محنته، ولكنهم قابلوها بالصبر والتحمل والرضا، وانشراح الصدر، والطمع فيما عند الله- عز وجل.

8- دوام النظر في سير السابقين من أصحاب الرسول- صلى الله عليه وسلم- وغيرهم، وكيف كانوا يواجهون المحنة.

9- الدعاء دائمًا باللطف والرضا والثبات، فقد كان الرسول- صلى الله عليه وسلم- يدعو ويقول: "اللهم إني أعوذ بك من شر البلاء وسوء القضاء".

10- محاسبة النفس، ثم الإقبال على الله- عز وجل- بالذكر والاستغفار.

11- النشاط في البلاغ والتربية لكسب أناس مستعدين للتضحية والبذل والعطاء والثبات.

12- الانضباط في الحركة مع الطاعة في المعروف، والتطلع دائمًا إلى الأجر والمثوبة من الله عز وجل.

13- مزيد من الترابط والتماسك الأخوي؛ فإنه ذو أثر كبير في تخفيف وقع المحنة.. عافانا الله وإياكم.