بينما كانت إثيوبيا تعلن بملء فيها أنها لن توقع على أي اتفاقية تلزمها بتمرير حصص معينة من المياه لدولتي المصب (مصر والسودان)، كان وزير خارجية السيسي يوقع اتفاقا جديدا مع اليونان يوم الخميس الماضي لترسيم الحدود البحرية؛ تضمن تنازلا جديدا عن حقوق مصرية في مياه البحر المتوسط وفي ثرواته الغازية والنفطية.

الإثم ما حاك في صدرك وخشيت أن يطلع عليه الناس.. ينطبق هذا تماما على نظام السيسي في توقيعه للاتفاقية الجديدة، إذ إنه اكتفى بالاحتفاء بتوقيعها في مؤتمر صحفي دون أن ينشر تفاصيلها ليتعرف عليها الرأي العام، وليتأكد من خلوها من أي تنازلات جديدة بعد سلسلة التنازلات المهينة من قبل، مثل التنازل عن مساحات كبيرة في مياه شرق المتوسط نفسه بتوقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع قبرص في العام 2013، والتي تنازل بمقتضاها عن أكثر من 11 ألف ميل بحري لقبرص، ثم التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية في العام 2016، رغم صدور حكم قضائي نهائي وبات من أعلى محكمة مصرية (المحكمة الإدارية العليا)، ثم التنازل عن حقوق مصر التاريخية في مياه النيل مع توقيع إعلان المبادئ مع إثيوبيا في مارس 2015 كثمن لعودة السيسي إلى الاتحاد الأفريقي.

هذه التنازلات المتتالية تدفع للشك الدائم في سلوك هذا النظام الذي لا يعبأ بالسيادة المصرية ولا بإرضاء المصريين، ولكنه يراعي دوما مصالح داعميه وحلفائه الإقليميين على حساب المصلحة المصرية. ومن هنا فلا غرابة أن تظهر الشكوك فور توقيعه لأي اتفاقيات دولية، ومن ذلك الاتفاقية الأخيرة لترسيم الحدود البحرية مع اليونان، والتي كانت محل نقاشات منذ عهد الرئيس السابق حسني مبارك الذي رفض المقترحات اليونانية للترسيم لإضرارها بالحقوق المصرية. وحتى في ظل نظام الحالي نفسهـ سبق لوزارة الخارجية أن حذرت من الاستغلال اليوناني للعلاقات المتميزة مع نظام السيسي لتمرر رؤيتها في الترسيم البحري، بما يحرم مصر من مساحة 3 آلاف ميل بحري حسب وثيقة مسربة لوزارة الخارجية المصرية. ومع ذلك فقد تجاهل السيسي هذه التحذيرات وأوصى باستكمال المباحثات وتوقيع الاتفاق مع اليونان، نكاية في تركيا. يعني ببساطة التفريط في حقوق مصرية جديدة نكاية في خصم خارجي (كمن أراد إغاظة زوجته فأخصى نفسه)!!
 امتناع النظام المصري عن نشر التفاصيل الكاملة للاتفاق (واكتفاؤه بنشر بعض البنود الفنية غير المفهومة للعامة)، بل واعتباره هذا الاتفاق  بمثابة "جول" هدف قوي جديد أحرزه، على غرار الهدف الذي أحرزه (في مرمى مصر) حين وقع مع الكيان الصهيوني اتفاق استيراد كميات كبيرة من الغاز لمدة عشر سنوات بأسعار تفوق السعر العالمي، ولا يحتاجها السوق المصري!!  يفتح الباب لنا ولغيرنا للتكهن بتلك التفاصيل بناء على الخبرات السابقة لتعاملات هذا النظام، ولكن يظل من حق الشعب المصري معرفة تلك التفاصيل، فتلك المياه ليست بحيرة خاصة بأحد قصور السيسي، ولكنها حقوق وطنية لعموم الشعب المصري، سواء من الجيل الحالي أو الأجيال المقبلة.

وحتى يتم الكشف عن تلك التفاصيل فإن الخسائر المحتملة لمصر كبيرة وفقا لهذا الاتفاق، وأهمها حرمان مصر من مساحات بحرية واسعة (تصل إلى 10 آلاف كيلو متر)، وحرمانها من التحول إلى منصة إقليمية لتصدير الغاز، وتضرر الاستثمارات النفطية الجديدة في مصر التي أبرمت عقودا للتنقيب في المياه المصرية  العميقة في المتوسط حيث أصبحت تلك المياه من نصيب اليونان وفقا للاتفاق الجديد، وتذليل العقبات أمام خط الغاز الإسرائيلي الجديد إلى أوروبا (إيست ميد) والذي لم يكن له أن يتم وفقا للاتفاق التركي الليبي حيث أنه يمر بالمياه التركية.

الاتفاق اليوناني المصري الجديد جعل منطقة شرق المتوسط هي الأكثر التهابا، خاصة بين تركيا واليونان اللتين يربطهما تاريخ طويل من الصراعات والحروب بسبب الجزر والحدود البحرية. لكن المشكلة هي توريط اليونان لنظام السيسي في حرب مع تركيا، رغم عدم وجود تماس أو تداخل في الحدود البحرية بين مصر وتركيا. وقد بدأت بوادر هذا التوتر البحري بانتشار هائل للسفن التركية مدعمة بالقوات الخاصة في البحرية التركية (SAT – SAS)، والتوجه نحو شرق حوض المتوسط بشكل غير مسبوق من مساء الجمعة الماضي، بعد أن سحبت تركيا سفنها قبل عدة أيام استجابة لوساطة ألمانية بينها وبين اليونان.
 وأعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عقب صلاة الجمعة الماضية في مسجد آيا صوفيا؛ أن تركيا استأنفت بالفعل أعمال التنقيب عن الطاقة في شرق البحر المتوسط، أي في المناطق محل التنازع مع اليونان.

تستغل اليونان فرصة انشغال تركيا في أكثر من مواجهة إقليمية، مثل الحرب في ليبيا، أو التوتر بين أذربيجان وأرمينيا، أو شمال سوريا والعراق، لتنسف اتفاقها البحري مع ليبيا، أما تركيا التي تزيد سكانيا عن سبعة أضعاف اليونان، والتي تتمتع بحيش قوي، فلن تقبل هذا التحرش اليوناني، وستسعى لتنفيذ اتفاقها البحري مع ليبيا بالقوة العسكرية، ولكن على الأرجح سيتدخل حلف الناتو باعتبار الدولتين (تركيا واليونان) عضوين فيه لحل الخلاف بينهما، ودفعهما لقبول تحكيم دولي، سواء عبر محكمة العدل الدولية أو أي آلية أخرى يتفقان عليها لترسيم الحدود البحرية بينهما، وساعتها ستكون مصر مجددا هي الخاسر من ذلك.
----
نقلا عن "عربي21"