«ما أشبه النكبة بالبيضة، تُحسب سجناً لما فيها وهي تحوطه وتربيه وتعينه على تمامه، وليس عليه إلا الصبر إلى مدة، والرضى إلى غاية، ثم تنقف البيضة فيُخرَج خلقا آخر».
عبارة أوردها الأديب الرافعي في وحي قلمه عن أحد البلغاء، تُجسّد حالة مطردة في الأمم على مرّ الزمان: إن المحن دائما تُسفر عن مِنح، ففي حرّها وسمومها تتربى الأجيال، فإذا هي الظلام الدامس الذي ينبلج منه ضوء الفجر، وهي العسر الذي يتمخض عن اليسر.
لطالما نظرنا إلى المحن والأزمات التي تكتنف حياتنا على أنها نهاية التاريخ، نتعاطى معها على أنها السطر الأخير في رواية العناء، وتجد هذه النظرة أقلاما وأصواتا مؤازِرة، تُربي بذور اليأس والتشاؤم بقصد أو بغير قصد. فلئن كنا مطالبين بالموضوعية والشفافية في توصيف الواقع، وعدم إغراق الجماهير في الأحلام الوردية، إلا أننا بالتوازي مع ذلك مطالبون بالتعامل مع المحن والأزمات بشيء من التفاؤل، نبث الأمل في القانطين، انطلاقا من ذات الموضوعية والشفافية، المستلهَمة من صفحات التاريخ، التي أنبأت بميلاد المنح من قلب المحن، على مستوى الأفراد والأمم، فالحقيقة الظاهرة أن المحن والأزمات تربي الشعوب، فتغدو أكثر صلابة وصلادة ونضجا بما يكفي لعملية النهوض والانبعاث. التيه الذي دخله بنو إسرائيل على مدى أربعين سنة، رغم أنه جاء عقوبة على تمردهم على أوامر الله وأنبيائه، إلا أنه في خلال عقود هذه المحنة، تربى جيل جديد منهم على الإيمان والانضباط والجدية والشجاعة، كانت المقومات اللازمة لدخول الأرض المقدسة، التي نكص آباؤهم عن دخولها بما لديهم من ضعف إيمان وخور وفوضى، ولم يشهد نبيا الله موسى وهارون هذا الدخول، إلا أن الثمرة قطفها الجيل اللاحق. وفي بطحاء مكة تلاقت الرمال الملتهبة مع الحديد المحميِّ والسياط المرعبة والحجارة الثقيلة، لتجتمع على قهر بشرٍ من لحم ودم، لا لشيء إلا لأنهم تنكروا للموروثات الباطلة، واتبعوا النور الذي نزل من السماء، وفي خضم المحنة والأزمة، وفي ظل الصرخات التي تتساءل عن النصر، كانت البُشريات بانقشاع الظلمة وولادة النور، وإتمام الأمر، وبلوغه ما بلغ الليل والنهار، فكانت بعدها دولة الإسلام الأولى، التي نفذت أشعتها إلى العالمين، وصارت حضارة فريدة استفادت منها البشرية جمعاء.
تربت الشعوب بين أنياب محنة غياب الأقصى عن حضن الأمة، في ظل تسلط الحكام العملاء الخونة الممالئين لأعداء الأمة، قبيل ظهور صلاح الدين، إذ كانوا يستنصرون بالصليبيين على أقرانهم، فتشتت شمل الشعوب، لكن هذه المحنة هي التي أنبتت أمثال السلطان نور الدين محمود زنكي، وتلميذه صلاح الدين الأيوبي، والتي كانت وحدة الأمة وفصم أغلال الأقصى مهمتهما الأسمى، لينطلق الأخير لاستكمال ما بدأه قائده، وعبر إلى فلسطين من خلال تطهير مصر من حكامها العبيديين الخونة، واسترد الأقصى بعد قرابة مئة عام، لم يرفع منه الأذان، ولا ننسى في هذا المقام أن نشير إلى دور المدارس النظامية التي أنشأها الوزير نظام الدين قبل ذلك، والتي أخرجت جيل صلاح الدين، بما عرف عنها من انتشار في المدن والعواصم والقرى، واشتمالها على مناهج تؤسس لنهضة مجتمعية شاملة، تُوّجت باستعادة القدس. ومن كان يظن أن الأمة ستقوم لها قائمة إبان الاجتياح التتري، فقد ضربت الهزيمة النفسية أطنابها في النفوس، وأضحى الناس يتداولون أن التتار يأكلون لحوم البشر، ويشربون دماءهم، حتى أن الرجل منهم ربما دخل حانة وقيّد كل من فيها، من دون أن يحركوا ساكنا، اعتقادا منهم بأنهم لا قبل لهم بالتتري، ويكفي أن نعلم بأن بلاد مازندران في إيران، لم يستطع المسلمون دخولها إبان الصراع مع فارس، ولم يدخلوها إلا في زمن سليمان بن عبد الملك، لكن التتار دخلوها في زمن قياسي، وسهولة عجيبة، بسبب الهزيمة النفسية التي تمكنت من أهلها.
لقد كان المؤرخ ابن الأثير يعرض عن ذكر هذه الحوادث استعظاما لها كما ذكر في كتابه «الكامل» لكنه لم يكن حيا حين بدأ التتار هجمتهم الثانية واجتاحوا حاضرة الخلافة وقتلوا فيها مئات الآلاف. رغم كل ذلك إلا أن صحوة ما قد بدأت، قادها علماء أمثال الإمام العز بن عبد السلام والقادة أمثال قطز وبيبرس، جعلت الجماهير تدرك خطر الفرقة والعمالة وضرورة دفع ضريبة المواجهة، قبل أن يدفعوا ضريبة الذل، فكانت عين جالوت هي الصخرة التي تكسرت عليها شوكة التتار، وجاءت الأحداث التي تليها تطهيرا للأمة من درن الاحتلال. وإنها لحالة مطردة بين الأمم أن تربيها المحن، فالشعب الألماني خرج من الحرب العالمية الثانية مهزوما منكسرا، لا وجود فيه سوى للأطفال والنساء وكبار السن، أما الشباب فمنهم من قتل في الحروب ومنهم من سيق إلى معسكرات الاغتيال، لكن فترة السقوط كانت محنة، ربت هذه النفوس على العطاء والبذل، من دون انتظار المقابل، فقام ذلك الشعب المنكسر من جديد، وبنى بلاده حتى صارت من القوى الاقتصادية والعسكرية والعلمية ذات المواقع المتميزة في الترتيب العالمي.
الشعب الياباني الذي تربى في محنة الاستسلام بعد نجازاكي وهيروشيما التي يجد آثارها إلى اليوم، هو الشعب ذاته الذي أذهل العالم بعدها بانبعاثه ونهضته، وأصبح رمزًا للصناعات والتكنولوجيا المتقدمة، إلى درجة أن كثيرا من الناس عندما يتناولون طرفا من حياة اليابانيين يقول: «كوكب اليابان».
إننا بحاجة إلى نظرة جديدة إلى المحنة، تضاهي نظرتنا إلى الدواء الذي نلتمسه في أنياب الثعابين وذيول العقارب، بحاجة إلى شيء من اليقين في الموعود الرباني، بحاجة إلى الاعتبار بأحوال الأمم وصفحات التاريخ بنقلاته البعيدة، بحاجة إلى عدم السأم من النظر إلى نصف الكوب الممتلئ، بحاجة إلى التفاؤل الإيجابي الذي يصاحبه العمل والجدية لا انتظار المعجزات وظهور المُخلِّصين. لم تكن الصفحة الأخيرة ليوسف في ظلمة البئر، ولم تكن في الرق، ولم تكن في الغربة، بل لم تكن في السجن، بل كتبت حين قال «رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ».
تلك السطور ربما لا تحمل الجديد، لكنها تذكرة بالقديم المنسيِّ الذي غطاه ركام النكبات، وجدتُني مدفوعة لطرْقه وأنا أرى اليأس قد بلغ من الناس مبلغه، وجلسوا ينتظرون المعجزات أو الممات، من دون إعمال الفكر والعقل وصرف الهمة إلى العمل بسبب سوء الأوضاع على الأصعدة كافة، فالنكبات وإن كانت تتوالى، فالفرج كذلك يتوالى، واليسر يغلب العسر، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كاتبة أردنية عن "القدس العربي"