بقلم: د. رشاد لاشين

لاحظت أن في شهر شعبان من كل عام إقبالاً كبيرًا وواسعًا من الأمهات على فطام أبنائهن فطامًا كاملاً؛ حتى كاد يكون شهر شعبان هو الموسم العالمي للفطام، ويتردد على عيادات طب الأطفال كثير من الأمهات؛ لطلب الإرشادات الطبية الخاصة بالفطام، وعند سؤالهن: لماذا التعجل بالفطام رغم صغر سن الطفل الذي لم يأخذ قسطًا وافيًا من الرضاعة ولم يكمل عامين؟ تجد الإجابة أن ذلك؛ استعدادًا لرمضان وحرصًا على أداء فريضة الصوم، وحين المناقشة تجد عاطفة قوية وجارفة وعدم قبول لفكرة الرخصة التي منحها الله تعالى للمرأة الحامل أو المرضع بالإفطار؛ حرصًا عليها وعلى ولدها .. تقول الأم: كيف أفطر؟! ..أيام رمضان لا تعوَّض .. وكأن هناك قرارًا سابقًا لا رجعة فيه مهما كان الضرر لها أو لولدها .. وهناك أمهات يدفعن أبناءهن للتغذية المبكرة قبل عمر الستة أشهر، بما يخالف التعليمات الطبية وبما يجلب الضرر لأبنائهن؛ وذلك بسبب العاطفة القوية والرغبة الشديدة في الصيام دون مراعاة أهداف الشرع ويسره ومرونته.

الأخت المسلمة الفاضلة الحريصة على دينها:

عليكِ أن تدركي أن الله تعالى كما فرض عليك فرائض العبادات فرض عليك واجبات الأمومة؛ لرعاية الأجيال التي تحمل الرسالة والإسلام، وأنت تثابينِ على فريضة الأمومة هذه كما تثابين على فرائض العبادات؛ لذا أعطي الأمر قدره برؤية صحيحة ينبثق منها قرار صحيح يتوافق مع قدر المسئولية والرعاية فـ"كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"، ويتوافق مع الشرع الحنيف الذي يعلمنا أن نتحمل المسئولية الشاملة فنعطي كل ذي حق حقه، بلا إفراط ولا تفريط، ولا ننجرف وراء العاطفة بلا تقدير للمسئولية.

 وفي هذه السطور سأطرح أمامكِ الحقائق الطبية والشرعية؛ حتى تأخذي القرار الصحيح المبني على أسس صحيحة:

بعض الحقائق بين يدي الموضوع:

أفضل مدة للرضاعة من الناحية الطبية:

أثبتت الدراسات العلمية وأوصت المحافل الطبية أن أفضل مدة للرضاعة هي سنتان.

أفضل مدة للرضاعة من الناحية الشرعية:

﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ (البقرة: من الآية 233).

الاحتياج الغذائي أثناء الرضاعة:

ثبت علميًّا أن المرضع تحتاج إلى تغذية أكثر من الحامل؛ حيث ثبت أن تكوين اللبن يحتاج إلى تغذية أكثر من تكوين الجنين نفسه.

 أثر الفطام الكامل المبكر على صحة الطفل الجسمية والنفسية:

للرضاعة أهمية كبرى في التكوين الجسمي والنفسي للطفل؛ لذلك ينتج عن الفطام الكامل المبكر مشكلات صحية ونفسية؛ فمن الناحية الصحية قد تضعف بنية الطفل بالإضافة إلى أنه عادة ما يحدث نقص مؤقت في مناعة الطفل بعد الفطام، وخصوصًا إذا لم يكن مدربًا جيدًا على التغذية الخارجية؛ فيؤدي ذلك إلى الإصابة بالعدوى والأمراض، مثل النزلات المعوية وغيرها.

 أما من الناحية النفسية فالفطام المبكر يؤدي إلى نقص في الإشباع النفسي للطفل، فلا يأخذ القدر الكافي منه وما يظهر على سلوكيات الطفل فيما بعد، من قسوة وغلظة وفقدان للحنان، والاستقرار النفسي.

المراحل الغذائية التي يمر بها الطفل:

1- أقل من 6 أشهر:

يعتمد الطفل بشكل كلي على الرضاعة من ثدي الأم، وتسمى هذه الفترة (فترة الرضاعة المطلقة)؛ أي أن الرضيع يجب ألا يتناول أي شيء مطلقًا سوى ثدي الأم، طالما كان وزنه طبيعيًّا متناسبًا مع سنه.

2- من 6 أشهر إلى سنة:

يبدأ إدخال الأطعمة الخارجية من بدء الشهر السابع، وهو ما يعرف بـ(الفطام الطبي)؛ أي: إدخال الأطعمة الخارجية إلى جانب الرضاعة من الأم في بداية الشهر السابع.

 3- من سنة إلى سنتين:

يستطيع الطفل تناول وجبات خارجية كافية مع الرضاعة الطبيعية، ويتم الفطام الكامل عند عمر السنتين.

 هل يمكن الجمع بين الرضاعة والصيام؟

تتفاوت قدرة الأمهات على تحمل الصيام؛ حيث يمكن عمل تجربة اختبارية لقياس مدى تحمل الأم للصيام مع الرضاعة، وكذلك مدى كفاية اللبن أثناء الصيام، ومدى تحمل الطفل صيام أمه ولكن بالضوابط الآتية:

1- إذا كانت الأم تتمتع بصحة جيدة؛ أي لا تعاني من الأمراض أو فقر الدم، ولا تصاب بالدوخة أو الإجهاد، أو "الزغللة" أثناء الصيام.

 2- إذا كان عمر الطفل مناسبًا؛ بحيث يستطيع تناول بعض الوجبات الخارجية؛ أي يكون عمره فوق السنة، ويمكن إذا كان فوق الستة أشهر ويقبل على الوجبات الخارجية بسهولة.

 3- إذا كان الطفل يتحمل صيام الأم؛ أي تظهر عليه علامات الإرضاع المشبع بالهدوء والنوم الجيد بعد الرضاعة.

  4- أن يتم القياس برفق وحيادية وبلا تعنت ولا مشقة على النفس، وأخذًا بهدف التيسير الشرعي.

 التيسير الشرعي ورفعه للحرج:

ما أعظم الإسلام وما أروع رعايته للمرأة أثناء الرضاعة!! يقول رسولنا الحبيب- صلى الله عليه وسلم-: "إن الله عز وجل وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة، وعن الحبلى والمرضع الصوم" (رواه أصحاب السنة بإسناد جيد: مصابيح السنة النبوية للبغوي 2-85)، فلحاجة السيدة المرضع إلى التغذية الجيدة رفع رسولنا الحبيب- صلى الله عليه وسلم- عنها الحرج بالنسبة للصيام، وأخبر أن الله تعالى؛ الذي فرض الصيام هو سبحانه الذي خفَّف عن السيدة المرضع هذه الفريضة حتى أفتى العلامة الشيخ القرضاوي أن (المرأة التي تحمل وترضع بصورة متكررة لها أن تفطر وتخرج الفدية فقط دون القضاء)؛ وهذا نص الفتوى:

فتوى فضيلة الشيخ العلامة الدكتور القرضاوي بخصوص صيام الحامل والمرضع:

(يصح للمرأة الحامل أن تفطر في رمضان إذا خافت على جنينها أن يموت.. لها أن تفط.... بل إذا تأكد هذا الخوف أو قرره لها طبيب مسلم ثقة في طبه ودينه، يجب عليها أن تفطر حتى لا يموت الطفل، وقد قال تعالى: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ﴾ (الأنعام: من الآية151، والإسراء: من الآية31)، وهذه نفس محترمة، لا يجوز لرجل ولا لامرأة أن يفرط فيها ويؤدي بها إلى الموت، والله تعالى لم يعنت عباده أبدًا، وقد جاء عن ابن عباس أيضًا أن الحامل والمرضعممن جاء فيهم: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ (البقرة: من الآية 184).

وإذا كانت الحامل والمرضعتخافان على أنفسهما فأكثر العلماء على أن لهما الفطر وعليهما القضاء فحسب.. وهمافي هذه الحالة بمنزلة المريض.

 أما إذا خافت الحامل أو خافت المرضع علىالجنين أو على الولد؛ فقد اختلف العلماء بعد أن أجازوا لها الفطر بالإجماع هل عليهاالقضاء أم عليها الإطعام تطعم عن كل يوم مسكينًا، أم عليها القضاء والإطعام معًا؟اختلفوا في ذلك، فابن عمر وابن عباس يجيزان لها الإطعام، وأكثر العلماء على أن عليهاالقضاء، والبعض جعل عليها القضاء والإطعام، وقد يبدو لي أن الإطعام وحده جائز دونالقضاء، بالنسبة لامرأة يتوالى عليها الحمل والإرضاع؛ بحيث لا تجد فرصة للقضاء، فهيفي سنة حامل، وفي سنة مرضع، وفي السنة التي بعدها حامل .. وهكذا .. يتوالى عليهاالحمل والإرضاع، بحيث لا تجد فرصة للقضاء، فإذا كلفناها قضاء كل الأيام التيأفطرتها للحمل أو للإرضاع معناها أنه يجب عليها أن تصوم عدة سنوات متصلة بعد ذلك،وفي هذا عسر، والله لا يريد بعباده العسر.

 وبعد:

فأعْلمُ جيدًا تمسك السيدات المسلمات بالصيام وتقديسهن إياه إلى حدِّ الضرر، ولكن ليس هذا هو الإسلام، وليست هذه هي إرشادات رسالته العظيمة التي جاءت رحمةً للعالمين.. هوِّني على نفسك أختي المرضع، واستجيبي لأمر الله، الذي أخبر عنه رسولنا الحبيب- صلى الله عليه وسلم- وهو الذي علَّمنا في الحديث الشريف الذي رواه سيدنا عبدالله بن عمر- رضي الله عنه- "إن الله يحب أن تُؤتى رخصُه كما يحب أن تُؤتى عزائمه".

لا تشقِّي على نفسك ولا تجلبي الحرج لك أو لابنك الرضيع، وقد خفف الله عنك ورفع الحرج عن عباده قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ (الحج من الآية : 78) قال مقاتل: يعني الرخص عند الضرورات، وقال تعالى: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ﴾ (المائدة: من الآية 6).. وقد سأل سيدنا عمر بن الخطاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن رخصة قصر الصلاة في السفر رغم أمن الناس من الخوف والفتنة، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته"، وهذه أيضًا أختي المرضع رخصة وصدقة تصدق الله تعالى بها عليكِ، فهل تقبلين صدقته وتنفذين ما يحبه- سبحانه وتعالى-؟! سنرى!!.