أ. ع-  مصر:

ابنتي طالبة في  السنة الثانية  في إحدى الكليات العملية، مشكلتها أنها تعاني منذ الصغر من قسوةِ والدها عليها، فكان دائم الضرب لها، وإذا تدخلتُ للدفاع عنها يضربني ويهددني بالطرد من المنزل، فكنتُ أصبر خشيةً على أولادي الأربعة الباقين، حتى تدهورت نفسية ابنتي وحاولت الانتحار أكثر من مرة، وحاليًّا متقدم لها عريس ووالدها غير موافق، وهي تهددني إذا لم يوافق عليه سوف تنتحر، فماذا أفعل لإنقاذ ابنتي؟

 

يجيب عليها الدكتور أسامة يحيى استشاري اجتماعي في (إخوان اون لاين):

حمدًا لله على نعمائه، وصلاةً وسلامًا على خير خلقه.. وبعد 

مازالت هناك بقايا أساليب تربوية قديمة موروثة تنتقل من جيل إلى آخر أثبتت الأيام أنها لم تعد تأتي بخير.. أساليب ربما بدت ناجحة ناجعة في أزمان غابرة ولكنها في عصرنا هذا انتهت صلاحيتها ولم يعد من ورائها نفع كثير أو قليل، بل أمست مضارها أشد وأنكى.. ومنها تلك القسوة التي أظهرها والد ابنتك لها منذ صغرها.

فلنبدأ القصة من أولها..

لا شك أن الأب- أي أب- يود أن يربي أبناءه أحسن تربية، وأن يعلمهم أرقى تعليم، وأن يستجلب لهم أفضل الملابس والأطعمة والأغراض والأشياء.. فالأب يجتهد في ذلك اجتهادًا كبيرًا صادقًا.. ولكن.. قليل من الآباء من يصيب في طريقته، بينما الغالبية العظمي يخطئون وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.

لقد اختار زوجك أسلوبًا في تربية ابنتك كله قهر وإجبار.. والقهر هو أفظع قرار والإجبار هو أسوأ اختيار.. فالله خلق الإنسان أعز من أن يقهر على أمر لا يرغبه أو يجبر على فكر يرفضه، والله تعالى قادر على أن يقهر الناس ويجبرهم جميعًا على عبادته وطاعته، ولكنه تعالى أرسى مفهومًا معجزًا بقوله: (مَن شَاءَ فليؤمنْ ومَن شَاء فليكفرْ).. فإذا كان الخالق في علاه لم يقهر المخلوق- وهو قادر على ذلك- في أمر عبادته وطاعته، فكيف يتجرأ المخلوق- حتى لو كان أبًا- ليقهر مخلوقًا مثله- حتى لو كانت ابنته- على طاعته؟

إن القهر والإجبار قد يصلحان لبعض الوقت ولكنهما بالقطع لا يصلحان طوال الوقت. وإن صلاحهما لبعض الوقت قد يغري باستمرار استخدامهما طوال الوقت؛ الأمر الذي سيؤدي إلى الحياة التعيسة البغيضة.

يا أختاه.. لقد شعرت في كلماتك القليلة بمدى ضآلة دورك وسلبيتك كزوجة تشارك زوجها الرأي والقرار وتوزيع الأدوار وتنفيذ المهام، وأيقنت أنك على اختلاف عميق مع زوجك في طريقة تربية أبنائك، فأنت كما قلت "إذا تدخلت للدفاع عنها يضربني ويهددني بالطرد من المنزل، فكنت أصبر خشية على أولادي الأربعة الباقين".. تقلَص دورك وانكمش لدرجة العجز الكامل.. فبدلاً من أن تتعاونا كزوجين تصرفتما كخصمين، بل تصرفتما كآكل لحم وفريسته.. فحياتك الزوجية يا أختاه تحتاج إلى إعادة ترميم، وقد أمسى لنمط هذه الحياة ضحايا منهم ابنتك.

يا أختاه.. لقد سلب زوجك من ابنتك حقها الإنساني والإسلامي في أن تعامل بكرامة وحنان واهتمام وسلام.. عوملت ابنتك بطريقة مهينة قاسية فوجدت في العريس المتقدم طوق نجاة من حياة مليئة بالجفاف والجفاء والقسوة والعناء.. عوملت بطريقة أنستها تفحص هذا العريس فحصًا جيدًا لمعرفة مدى ملاءمته لها من عدمه.. إن ابنتك في حاجة لمن يساعدها على اتخاذ القرار المناسب، فمثل هذا القرار المصيري لا يصلح أن يؤخذ تحت هذا الضغط المريع والظرف الفظيع.. فتحت نير هذه الأجواء قد تسيء ابنتك التقدير فتقع بين براثن زوج لا يرقب فيها إلاً ولا ذمة، فكانت كالمستجير من الرمضاء بالنار.

أما ابنتك فقولي لها..

أنا أعلم كم في حياتك من مآسٍ وألم.. وأشعر بقدر ما يستبد بك من ضيق وغم.. ولكن ذلك لا يدفعك للتخلص من نفسك انتحارًا، ولا يجبرك على القضاء على دنياك وأخراك، وإغضاب الله الواحد الأحد.. إن أباك يا ابنتي من الماضي، فلا تجعلي الماضي يعكر عليك الحاضر ويحطم مستقبلك.. إن أباك يا ابنتي ربما يكون قد تصرف بجهالة ولكني أعيذك أن تتصرفي أنت أيضًا بجهالة.

إن أباك يا ابنتي ربما يكون أبًا فشل في الرعاية النفسية لك، ولكنه قد يكون متميزًا في معرفة معادن الرجال وملمًا بما يصلح من الشباب زوجًا لك، كما أنه الباب الطبيعي الذي يطرقه من يريد أن يخطبك.. فلا بد أن يؤخذ رأيه في الاعتبار..

 يا أختاه.. إن تدهور حالة ابنتك النفسية دفعها- كما قلت- لمحاولة الانتحار أكثر من مرة، وأن فكرة الانتحار التي مازالت تراودها لدليل على أنها في مسيس الحاجة للعرض على طبيب نفسي.. فسارعي لإتمام هذه الخطوة ولا تتأخري أكثر من ذلك.. إنه دورك الأول يا سيدتي..

أما دورك الآخر هو أن تتحدثي مع زوجك وتناقشيه بكل رفقٍ ولين.. وبكل ما لديك من أنوثة وأمومة حتى يلين.. دورك الذي فقدتيه كزوجة وأم منذ عقود مضت.. دورك الذي يجب أن تجتهدي لاستعادته وضخ الدماء فيه لتعود إليه الحياة من جديد.. ثم.. ابحثي عن كبير بالعائلة ذي كلمة مسموعة لدى زوجك ليتدخل في موضوع زواج ابنتك بكل حكمة وروية حتى ترسى المركب على الشاطئ الآمن. 

وأذكرك بالدعاء واطلبي من الكريم الذي لا تنضب خزائنه.

شرح الله صدرك ويسر أمرك.