ثامناً: احترام نظم ولوائح الجماعة خلقنا

إن العمل التربوي المنظم المثمر الجماعي هو منهج أصيل في الإسلام؛ فلا جماعة بلا نظام، ولا نظام بلا جماعة، فهما كوجهين لعملة واحدة لا يصلح أحدهما أو كلاهما إلا بالآخر، فإذا اتفقنا على أن الجماعة ضرورة شرعية، وهي من ثوابت الإسلام، فإن هذه الجماعة تبقى جسداً لا ينبعث فيه الروح إلا بالتكاليف المنظمة والواجبات المفروضة، وهي جسد ميت إذا لم تقم على النظام والتنظيم، وتصير معنى بلا تطبيق ولا واقع إذا انفك النظام عنها، تنظيم يشمل العقيدة والعبادة والحركة، فالنظام لا ينفك عنها ولا تنفك هي عن التنظيم، لذلك وضع الإمام البنا للجماعة منهجاً للعقيدة، ومنهجاً للعبادة ومنهجاً للحركة، ليتوحد الفهم وينضبط المسير ويصبح احترام النظام من ثوابت الجماعة.

فمن أراد أن يلج الباب ويدخل ليكون من الأتباع أخاً ومشاركاً في الحركة، كان عليه أن يحترم النظام ولا يخرج عنه، وهذه بدهيّة، لأنه في حياتنا العملية بمجرد انضمام إنسان إلى ناد من النوادي لابد أن يخضع للائحته ونظامه الأساسي، وإلا تعرض للعقاب الذي قد يصل إلى الفصل، كذلك المدرسة أو الكلية أو العمل في مؤسسة أو شركة، يخضع العامل فيها لمواعيد العمل ونظامه وطاعته لمديره في كل ما يكلفه به، بل إن الحزب السياسي إذا تحدث عضو فيه مجرد حديث، وقال مجرد كلمة تتعارض وأفكار وتصورات وتوجهات الحزب، سرعان ما يعرض نفسه للجنة النظام والقيم أو لجنة العضوية التي تفصل في أمره، وقد يتعرض العضو في حزب سياسي للتحويل إلى لجنة النظام في الحزب للنظر في أمره بمجرد أن يتقدم إلى الترشيح في الانتخابات دون رغبة الحزب وإذنه (وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين) [النور: 49] فما بالك بجماعة تريد أن تقيم ديناً، وتستعيد خلافة سقطت، أقول: هل تستطيع أن تحقق ما ترجو إليه من أهداف كبار دون نظام ولا تنظيم،؟ هل يستطيع عاقل أن يقول: أستطيع أن أحقق هذه الأهداف الكبار التي تنشدها الجماعة دون الخضوع لنظامها الذي يحدد حركتها ويضبط مسيرتها؟ أو يقول: إنني أؤمن بالفكرة والتصورات والأهداف غير أني لا ألتزم بنظام الجماعة؟! وليس لأحد عليّ من سمع أو طاعة؟ فما بالك بمن يقول: مالنا وهذه النظم واللوائح والمناهج التي وضعت قيداً على الرقاب وشلا للحركة. دعونا ننطلق فلسنا صغاراً !!

أو يقول: هلا تركتم الأفراد بعد تربيتهم ينطلقون في المجتمع يدعون بدعوة الإسلام دون أن تقيدوهم بقيود النظام ومخاطره.

إن الشركة أو الهيئة أو المدرسة لا تستطيع أن تحقق أهدافها إلا بمدير ومدرسين وعمال وإدارة ونظام؛ فهل يستطيع عاقل أن يقول: إنني ضمن أسرة الحزب آمنت به وبأفكاره التي يدعو إليها، لكنني لا أقيد نفسي بنظامه وهياكله وإدارياته وتكاليفه وأوامره، إنه إن تلفظ بذلك سرعان ما يُقدم للمسئولين عن الحزب ليحاسبوه، ليس على ما فعل، ولكن على ما قاله من كلام مرسل أو مصرح به في بيان، فما بالك بجماعة تنظم نفسها لاستعادة أمة ضاعت هويتها وفقدت أركانها، وتريد العودة إلى مجدها، فهل يستطيع عاقل أن يقول: أستطيع أن أحقق هذه الأهداف الكبار دون إداريات أو نظام؟ سبحانك.. هذا بهتان عظيم.

مواقف خارجة عن النظام:

إن المواقف الخارجة عن النظام تحتاج من القيادة الحسم فيها، وإلا كانت الفوضى التي لا تأتي بخير، وهذه بعض المواقف على سبيل المثال لا الحصر التي مرت بها الجماعة القديمة نختار منها:

الباقورى والوزارة: قبل الشيخ أحمد حسن الباقوري رحمه الله الوزارة في عهد عبد الناصر دون إذن من فضيلة المرشد حسن الهضيبي.

فقال له المرشد: ما الموقف؟

قال الباقوري: أستقيل من مكتب الإرشاد.

قال المرشد: ثم ماذا؟

قال: أستقيل من الهيئة التأسيسية.

قال المرشد: ثم ماذا؟

قال: أستقيل من جماعة الإخوان المسلمين.

فقال له المرشد: هذا هو الحل. ثم ذهب فضيلة المرشد إليه في وزارة الأوقاف وهنأه.

وحتى الذين خرجوا عن فكر الجماعة وبالتالي خرجوا على نظامها حين هبت ريح فتنة التكفير إثر محنة 1965م استبشر البعض بهذا الفكر لأنهم وجدوا فيه ضالتهم المنشودة.

وقالت شياطينهم: هذا الفكر سيمزق صفوف الإخوان من الداخل، وسينفر منهم الناس في الخارج.

فكان القرار هو عزل أصحاب هذا الفكر ليتعمق في نفوسهم احترام نظم الجماعة وفكرها، ولذلك صدر كتاب "دعاة لا قضاة" ليميز المتبع من المبتدع، والملتزم من الخارج، حتى أن بعض الإخوان كانوا يرون إرجاء مناقشة هذا الفكر في هذه الظروف الصعبة. لكن الأستاذ المرشد –رحمه الله- قال: إن هذا الفكر أشد خطورة على الدعوة من السياط والتعذيب الذي يقوم به زبانية عبد الناصر، وحسم الأمر  (ليهلك من هلك عن بينةٍ ويحيي من حيَّ عن بينةً) [الأنفال: 42].

فرجع الكثير عن هذا الفكر (المنحرف) وحفظت الجماعة بهذا الحسم، ولم يبق إلا قلة خرجت عن الجماعة فكراً وتنظيماً، حتى أن بعضهم قال: نبايع على كل شيء في الجماعة إلا مسألة التكفير، فقال الأستاذ المرشد: بل كل شيء حتى هذه المسألة، ومن لم يبايع فليبحث لنفسه عن لافتة غير "الإخوان المسلمون" ولك أن تقيس على هذه المواقف لترى أهمية احترام نظم ولوائح الجماعة فهي التي تبين للجماعة المتبع ممن نكص على عقبيه.

لقد علمنا المولى سبحانه وتعالى أن للكون سنناً محكمة، ونظاماً دقيقاً، لا ينبغي الخروج عن مداره ونظامه الثابت  (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكلٌ في فلك يسبحون) [يس: 40] فالنجم في السماء له مداره ونظامه، فإذا خرج عن هذا النظام تحطم وخبا نوره، وسقط من عليائه، وأصبح حجراً أصم لا يهتدي به أحد، بل إن الإنسان الذي خلقه ربه وضع له نظاماً ومنهج حياة به يسعد، وله يعيش، أرشده إليه  (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) [فصلت: 42]. وعلمنا رسولنا الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن من اتبع هذا الكتاب وفعل المأمور وترك المحذور وصبر على المقدور، فقد اهتدى ومن خرج عليه وعصى أوامره ونواهيه واتبع هواه فقد هلك  (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى (123) ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشة ضنكاً) [طه: 123، 124] وقال: (من يطع الرسل فقد أطاع الله) [النساء: 80]. فهناك ثابتة لبقاء الكون، ومنهج ثابت لسعادة الإنسان.

ومن هذه الدروس جميعاً نرى أنه لابد من نظام محكم سديد رشيد يجتمع عليه جميع أفراد الجماعة طاعة لله ولرسوله، ما دمنا نؤمن بصحة اعتقادها، وصدق اتباعها وإخلاص قادتها، فيصبح السمع والطاعة عبادة لله رب العالمين، ولذلك فإن هذا من طبيعة الحركة الإسلامية لكي تحقق أهدافها بنظام محكم، كما تعتبر إحياء المشاعر الإيمانية وإلهاب العواطف الإسلامية جزءاً من رسالتها التي هي رسالة الإسلام، وذلك لتوفير قدر من الحماسة يدفع إلى البذل والتضحية والسمع والطاعة في المنشط والمكره، وكذلك ربط القلوب برباط المحبة والأخوة التي ترتقي فتصل إلى درجة الإيثار، وفي نفس الوقت لا تغفل وحدة المفاهيم ووحدة التنظيم كتربية إدارية مرتبطة بالمشاعر الإيمانية، وإن كانت تقوم على العقل والفكر، لأن غلبة الجانب الفكري والنظري على الجانب التطبيقي والعملي، دون ربطه بالتربية من معوقات التربية، لذلك لابد من إيمان بالله يعني: التحقق بالقناعات الكافية بجدوى العمل، تصاحبه تقوى الله، وهي تلك الطاقة الفذة التي تشعل مصباح الضمير فيظل متألقاً متوهجاً إلى أن تلقى الله وما عليك خطيئة من قصور أو تقصير أو إفراط أو تفريط، وهذا لا يتحقق إلا إذا شعر المسلم من داخله شعوراً يملك عليه حياته بأن الله يراقبه وهو يمارس هذا العمل أو ذاك، فيستحسن ما حسنه الله، ويستقبح ما قبحه الله، حتى يصبح ذا قلب سليم ونفس مطمئنة الله حيث أمره ويختفي حيث نهاه حتى يصل إلى درجة الإحسان هو الإتقان في أداء ما عليه من تكاليف، لكي يوضع المسلم المؤمن التقي في المصاف الأعلى حيث هذا الإحسان الذي يدفع المسلم إلى الإبداع الكامل في كل ما يقوم به من واجبات في ضوء نظام الجماعة ولوائحها، إنه هنا يقف أمام الله سبحانه ويسمع نداء من نبيه صلى الله عليه وسلم ينفخ فيه اللحظة تلو اللحظة "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه" ومن هذا الأخذ والعطاء على الدرب الواحد صوب الهدف الواحد بنظام واحد وتوجيه واحد وقيادة واحدة، يتحول المسلم المؤمن إلى طاقة فذة في ميدان الإنجاز، قوة هائلة في مجال العطاء والإبداع، شعلة متوهجة يمتد شعاعها إلى أعماق الذات فيضيئها ويدفعها إلى آفاق العالم بقوة مدهشة إلى الأهداف المرتجاة، كل ذلك لتحقيق العبودية لله بكل ما يوصل إليها من شعائر أو نظم، فهي سواء كانت شعائر أو شرائع أو أخلاقاً أو نظماً أو إداريات، ذلك لأن منطلقنا تعبدي لله رب العالمين، فما بعثنا الله إلا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة. ولا يتحقق ذلك إلا بنظام محكم نبتغي به الأجر من الله سبحانه وتعالى.

منقول بتصرف من كتاب – الثوابت والمتغيرات-  للأستاذ جمعة أمين عليه رحمة الله.