محمد عبد الرحمن صادق

"قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" (الأعراف: 188).

ما تركته لِعِلَّة في دينه أو خلقه أو رجولته فهو من خير الناس ولكن ضعفت قوَّتي وخارت عزيمتي بعد سبع سنين عِجاف خطوبة انتظرت خروجه كل يوم ولكن لم يرق لحالنا قلب السَّجان منزوع الرحمة فقلت أعطي لنفسي فسحة وقد دخلت في الثلاثين من عمري تجري علينا أقدار الله عسي الله أن يقدِّر لنا الخير حيث كان ثم يُرضينا به..

"وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" (البقرة: من الآية 126).

إن ما سبق هو نص رسالة كتبتها إحدى الفتيات على وسائل التواصل الاجتماعي لتعلن عن انتهاء ارتباطها بخطيبها المُعتقل في سجون النظام المصري، وذلك لظروف قاسية مرَّت بها، إحدى هذه الظروف أن عجلة الزمان تدور بها بسرعة فائقة غير أن نفس هذه العجلة تجمدت عقاربها تماماً داخل المعتقل لدرجة أن من بداخله أصبحوا لا حيلة لهم ولا يعرفون لأنفسهم مصيراً في ظل وجود من يتعاملون معهم على أنهم رهائن وليسوا آدميين لهم آمال وأحلام وتطلعات.

أولاً: بيوت المعتقلين بين الرحى والسندان

بين عشية وضحاها ودون مقدمات ولا سابق إنذار تحولت بيوت الصالحين المُصلحين من قِبلة يقصدها كل صاحب فاقة أو عوز إلى هدف يرشقه كل مارق فاسد ناكر للمعروف!

وبين عشية وضحاها وجدنا أن قامات الشرفاء الذين كانت تضج المجالس بذكرهم تم تحويلهم إلى شياطين ترجم أشد من رجم إبليس في مناسك الحج، ويتم التنكيل بهم والزج بهم إلى السجون والمعتقلات!!

وبين عشية وضحاها وجدنا حرائر أطهار يُنعتن بأقبح الصفات ويُقذفن بكل نقيصة، ومنهن من تعامل معاملة الرجال في السجن والاعتقال، ومنهن من تذوق الأمرين لزيارة زوجها أو ابنها خلف القضبان وتتعرض لإهانات ما يسمونه (التفتيش الذاتي) وهو في حقيقة الأمر لا يصح أن يُطلق عليه إلا (التحرش الذاتي)، وقد كانت الواحدة من هؤلاء قبل ذلك سيدة مكانها وزمانها التي لا تخرج إلا لضرورة، والتي كانت تخجل الشمس من بهائها وحيائها!!

إن هذا التحول الشديد والمفاجئ كانت له تبعات كبيرة تفقد كل ذي لب لبه وتدع الحليم حيراناً!!

إن هذا التحول الشديد والمفاجئ غيَّر موقع المسئولية كاملاً ونقله من الزوج المُعتقل إلى زوجة وأبناء لم يسبق لهم خوض خِضم الحياة، خاصة في ظل قلوب جاحدة ونظرات شامتة وألفاظ قاسية من ألسنة حِداد لا تعرف الرحمة، وكأن من أمامهم من زوجات وأبناء، أسرى حرب مُقدسة انتصر فيها المجتمع على عدو لدود على غير الملة!!

ثانياً: مرارة الفقد داخل بيوت المعتقلين

إن الأزمات الاجتماعية التي تنهش ببيوت المُعتقلين ليست بالهينة ولا بالسهلة، فهذه أم ثكلى فقدت ابنها وتتنقل بين السجون والمعتقلات لزيارة الآخر، وتلك أرملة مسئولة عن إعالة أسرة كاملة بعد أن فقدت عائلها، وأخرى زوجة مفقود أو مُختفي قسرياً تنهش في قلبها لحظات الانتظار.

الصغار يكبرون واحتياجاتهم تتزايد، والشباب يشعرون بأن المجتمع يلفظهم لفظ النواة ويُعاقبهم بجريرة آبائهم الذين لم يرتكبوا مُنكراً ولم يقترفوا إثما سوى أنهم وطنوا أنفسهم وسخروا كل إمكانياتهم لينهض الوطن وليكون بين الأوطان شامة ومنارة.

إن قسوة المجتمع تخطت كل ذلك لدرجة أن أفراد المجتمع أصبحوا يخشون أن يزوِّجوا أبناء المعتقلين أو يتزوجوا منهم.

الزوجات والأمهات يكبرن في السن وتخور قوة الواحدة منهن بدنياً ومعنوياً دون رحمة ممن هم حولهن، لدرجة أننا يمكن أن نقول بأن مصير الزوجات ومستقبلهن أصبح مجهولاً كمستقبل أزواجهن تماماً!!

وبالرغم من كل هذه الظروف إلا أن كل هؤلاء لا يسلمون من تساؤلات لا إجابة لها، ونظرات الشفقة من المقربين التي لا يستطيعون تجاهلها، ونظرات الشماتة من الشامتين التي تعصر قلوبهم عصراً، وتلميحات للزوجة من ضِعاف النفوس الذي لا يخشون ربهم ولا يتقونه في مِسكينة كانت لها آمال وأحلام وتطلعات وفجأة تم تجريدها من كل ذلك وأصبحت بلا عائل يحميها، ونصائح للزوجة من أناس يدَّعون الحكمة بأن تطلب الطلاق لتفلت بالبقية الباقية من حياتها، غير مُبالين بنتائج نصائحهم التي تؤدي إلى تحطيم البقية الباقية من استقرار الأسرة، والبقية الباقية من عقل وقلب الزوجة، وتطعن الزوج المُعتقل في سويداء قلبه وهو الشريف في زمان عز فيه الشرفاء وصاحب المبدأ الذي لم يشتر حريته بالتخلي عن مبدئه.

إن الزوجة التي تُعير لمثل هذه النصائح السلبية اهتماماً عليها أنت تعلم أنها ستفقد احترام أبنائها لها واحترام الآخرين، وسيصفها الجميع بالأنانية التي لم تقدِّر ظروف زوجها الخارجة عن إرادته، وأن وضع الزوجة النفسي والاجتماعي سيصبحان أسوأ في حال أن خرج زوجها المُعتقل بعد اتخاذها قراراً بالانفصال عنه أو بعد أن أصبحت على ذمة رجل آخر!!

ثالثاً: نماذج من وفاء زوجات المعتقلين

إن مجتمع المعتقلين به من الأسرار ومن نماذج التضحيات والوفاء ما يصعب حصرها، وسنكتفي بذكر نموذجاً لوفاء زوجة معتقل ونموذجاً آخر لوفاء خطيبة معتقل.

1- السيدة فاطمة سليمان ترعى خمسة أبناء طوال فترة اعتقال زوجها التي استمرت عشرين عاماَ.

السيدة فاطمة سليمان محمد سلامة من مواليد المطرية بمحافظة الدقهلية عام 1926م وتزوجت عام 1941م ابن بلدتها الضابط طيار محمد علي الشناوي الذي كان عضواً في التنظيم الخاص للإخوان المسلمين وأنجبت خمسة أطفال.

في أحداث خطاب المنشية الذي تم فيه إطلاق الرصاص على جمال عبدالناصر عام 1954م تم القبض على زوجها في تهمة هو منها بريء وظل معتقلاً لمدة عشرين عاماً.

ظلت المضايقات الأمنية على المنزل مستمرة ولم تنقطع، وتم منع راتب الزوج، مما اضطرالسيدة فاطمة سليمان إلى أن تبيع مشغولاتها الذهبية وأثاث بيتها، كما باعت ميراثها من أجل توفير لقمة العيش لأبنائها الخمسة ولتنفق على تعليمهم حتى حصلوا جميعا على شهادات ومناصب مرموقة.

كانت السيدة فاطمة سليمان في سن 28 عاماً حين تم اعتقال زوجها وظلت طوال عشرين عاماً تعمل بكل طاقتها، ولم تقصر يوماً في زيارة زوجها وتلبية احتياجاته، ولم تتخلف عن زيارته في أي مكان يذهب إليه إلى أن قضى فترة اعتقاله وخرج عام 1974م.

ومن الجدير بالذكر أن الأستاذ الدكتور محمد بديع هو زوج السيدة "سمية" ابنة الضابط طيار محمد علي الشناوي.

2- موافقة "أمينة قطب" على الارتباط بـ "كمال السنانيري" وهو معتقل ومحكوم عليه بالمؤبد.

خلال فترة اعتقال الأستاذ محمد كمال السنانيري عام 1954 قال للأستاذ سيد قطب أنه يريد الارتباط بأخته "أمينة"؛ رغم علمه بأنه حُكِم عليه بالمؤبد!!

عندما تم عرض الأمر على "أمينة" وافقت على الفور، وبالفعل تم العقد أثناء وجود السنانيري في المعتقل، وبقيت أمينة قطب ما يقارب العشرين عامًا مخطوبة لـ"السنانيري" القابع في السجن الحربي، وظلت تراسل زوجها بقصائد شعرية في صورة رسائل تشدُّ من أزره وتقوِّي عزيمتَه.

تقول السيدة أمينة قطب: "كان هذا الرباط قمة التحدي للحاكم الفرد الطاغية الذي قرَّر أن يقضي على دعاة الإسلام بالقتل أو الإهلاك بقضاء الأعمار داخل السجون".

ومن بين الرسائل التي كتبها السنانيري لأمينة:

"لقد طال الأمد، وأنا مشفِقٌ عليك من هذا العناء، وقد قلت لكِ في بدء ارتباطنا قد يُفرَج عني غدًا، وقد أمضي العشرين سنة الباقية أو ينقضي الأجل، ولا أرضَى أن أكون عقبة في طريق سعادتك، ولكِ مُطلَق الحرية في أن تتخذي ما ترينه صالحًا في أمرِ مستقبلك من الآن، واكتبي لي ما يستقرُّ رأيُك عليه، والله يوفقك لما فيه الخير".

ردت أمينة قطب على رسالته قائلة: "لقد اخترت أملاً أرتقبه، طريق الجهاد والجنة، والثبات والتضحية، والإصرار على ما تعاهدنا عليه بعقيدة راسخة ويقين دون تردد أو ندم".

مرت السنوات وتم الإفراج عن السنانيري عام 1975م، ليواصل مع "أمينة" رحلة الوفاء والكفاح، وتمَّ الزواج. كان عمر السنانيري حينها قد بلغ 55 عاماً بينما كان عمر زوجته أمينة قطب 45 عاماً.

وفي الرابع من سبتمبر سنة 1981م تم اعتقال السنانيري مرة أخرى وظل تحت التعذيب إلى أن تم اغتياله داخل السجن في 8 نوفمبر 1981م، وتوفيت زوجته في 8 نوفمبر 2007م.

بعد ذكر هذين المثالين نذكِّر بحديث النبي ﷺ، عن ثوبان مولى رسول الله ﷺ أن النبي ﷺ قال: "أيُّما امرأةٍ سألت زوجَها طلاقًا من غيرِ بأسٍ، فحرامٌ عليْها رائحةُ الجنَّةِ" (صحيح الترمذي).

ونؤكد على كل زوجة أسير أو معتقل بنقاط هامة يجب مراعاتها:-

1- لا تحرمي نفسك من أجر الصبر ولا من ثواب الاحتساب.

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "أنا أول من يُفتح له باب الجنة، إلا أنه تأتي امرأة تبادرني، فأقول لها: مالك؟ من أنت؟ فتقول: أنا امرأة قعدت على أيتام لي" (رواه أبو يعلى في مسنده، والأصبهاني في الترغيب والترهيب، والخرائطي في مكارم الأخلاق، وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: رواته لا بأس بهم، وضعف البوصيري إسناده في الإتحاف، والألباني في الضعيفة).

وعن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "أنا وامرأةٌ سَفْعاءُ الخَدَّينِ كهاتَينِ يومَ القيامةِ، وأوْمَأَ يَزيدُ بالوُسْطى والسبَّابةِ: امرأةٌ آمَتْ من زَوجِها ذاتُ مَنصِبٍ وجَمالٍ، حَبَسَتْ نفسَها على يتاماها حتى بانُوا أو ماتُوا" (تخريج سنن أبي داود).

* سفعاء الخدَّين: أي مُتغيرة لون الخدين لما يُكابدها من المشقة والضنك وترك الزينة والترفه. * آمت: الأيم التى لا زوج لها. * بانوا: تزوجوا.

إن هذين الحديثين وإن كانا في حق الأرملة التي مات عنها زوجها إلا أنه بالقياس نجد أن زوجة الأسير أو المعتقل لا تقل عن الأرملة حالاً، ورحمة الله تعالى واسعة، والطمع في فضل الله واجب.

كما نذكر بقول الشاعر

إنَّ الوفــاءَ علـى الكريـمِ فريضـةٌ *** واللؤمُ مقرون بذي الإخـلافِ

وترى الكريم لمن يعاشـرُ مُنصفًا *** وترى اللئيمَ مُجانبَ الإنصافِ

3- لا تجعلي النماذج السيئة في المجتمع تحط من عزيمتك، فليس كل صديق وفي ولا كل ناصح أمين، ولا كل حالة يجب تقليدها.

4- لا تجعلي أول العلاج الكي فتضعي مستقبل الأسرة بكاملها في مهب الريح.

5- لا تبوحي بأسرار بيتك إلا لثقات الثقات ولا تأخذي الاستشارة إلا من أهلها.

6- لو جاءتك الاستشارة من أهلها فلابد من الإلحاح بالدعاء والاستخارة قبل تنفيذ أي قرار لا تحمد عُقباه.

7- إن أي علاقة بين زوجين أو خطيبين، مبنية على السَّراء والضَّراء والرضا بقضاء الله وقدره.

المصدر: بصائر