صفاء النفس من أعظم أسباب طرد الهموم، وراحة الصدور، وسبب من أسباب قبول الأعمال الصالحة، فقد قال النبي ﷺ: «تُفتح أبواب الجنة يوم الإثنين ويوم الخميس، فيُغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا إلا رجلًا كانتْ بينه وبين أخيه شحناء فيُقال: أنْظِروا هذين حتى يصطلحا» رواه مسلم.

وقد مدح الله قومًا لسلامة صدورهم، فقال تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا) (سورة الحشر: 9)

وكان قدوتنا ﷺ يدعو ربه ويتضرع بين يديه مبتهِلًا داعيًا: «واسلل سخيمة قلبي» رواه أبو داود.

وكان رسول الله ﷺ يقول: – «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: «إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين الحالقة» رواه أبو داود. وقال أيضًا ﷺ: «إِيَّاكُمْ وَسُوءَ ذَاتِ الْبَيْنِ؛ فَإِنَّهَا الْحَالِقَةُ» رواه الترمذي، وقَال أَبو عيسى الترمذي: – مَعْنَى قَوْلِهِ: وَسُوءَ ذَاتِ الْبَيْنِ إِنَّمَا يَعْنِي الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ، وَقَوْلُهُ: الْحَالِقَةُ يَقُولُ: إِنَّهَا تَحْلِقُ الدِّينَ.

إن النفس المؤمنة التي تجاهد لإصلاح نفسها تأبى الخضوع لنزغات الشيطان، وتدأب في التخلص من أدواء الحقد والغل والدنايا، لتفيض صفاء ونقاء يقطع كل سبيل للشيطان إلى تلويث قلبها وإفساده.

أحوال يرتع فيها الشيطان: – ذلك أن الشيطان قد يَعجز عن أن يمنع عن عبادة، وأداء خير، وبذل نصح، لكنه أبدًا لا ييئس أن يحتال على قلب بني آدم ليجعل من أصغر الأخطاء وقودًا لنار عداوة تتلهب وتتلظى في الصدر، لتحرق الكثير من العلائق الطيبة، ومكارم الأخلاق، قال رسول الله ﷺ: – «إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكنه لم ييأس من التحريش بينهم» رواه مسلم

وهكذا حال الخصومات إذا تُرك لها العنان تنمو وتنتفش، فيتولد الضيق والانحراف، إن لم يكن الصدام والتنافر، ولذلك شرع الإسلام من المبادئ ما يرد عن المسلمين مخاطر الانقسام والفتنة، وما يطبع قلوبهم بمشاعر التواد والألفة، فنهى عن التقاطع والتدابر، قال النبي ﷺ: «لا تقاطعوا ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث» رواه مسلم.

ولم يكتف بهذا النهي الجازم الحازم، وإنما رتّب الخير والأجر والفضل لأكثرهما قدرة على تخليص قلبه مما شابه من آثار حمية الغضب، وتطهيره من أدناس الغل والحقد، فبادر بالسلام، قال ﷺ: «لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام» رواه البخاري

حكمة الإسلام في الإصلاح: – ذلك أن أي نزاع ينشب بين شخصين فلابد أن يكون أحدهما ظالمًا لصاحبه، وللإسلام نصحٌ لكل واحد منهما، لتعود أجواء الوفاق والوئام ترفرف من جديد، قال النبي ﷺ: «مَن كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها، فإنه ليس ثمَّ دينار ولا درهم، من قبل أن يُؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أخِذ من سيئات أخيه فطرحت عليه» رواه البخاري.

وهذا نصح الإسلام لمن عليه الحق، فإن كان الحق للآخر، فقد رغّبه الإسلام في الصفح والعفو، ففي الحديث: «مَنْ اعْتَذَرَ إِلَى أَخِيهِ بِمَعْذِرَةٍ فَلَمْ يَقْبَلْهَا، كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ خَطِيئَةِ صَاحِبِ مَكْسٍ» رواه ابن ماجة

ومن هنا، فإن الإسلام شدَّد النذير في التحذير والترهيب من مغبة التمادي في الجفاء والقطيعة، وحارب ما يمكن أن يعتمل في الصدور من رواسب الحقد والغل والحسد، وأباد جرثومتها في المهد، حتى لا تنزلق بصاحبها إلي هوة عميقة لا صلاح له بعدها.

بل إن بعض حكماء البشر بفطرتهم أدركوا أن أصحاب الأحقاد والضغائن ليسوا مؤهلين لبلوغ آمالهم، فضلًا عن أن يرتقوا مكانة رفيعة، أو منزلة مرموقة في قلوب الناس، فقال قائلهم:

لا يحمل الحقد مَن تعلو به الرتب *** ولا ينال المجد مَن طبعه الغضب

وسائل عملية تعين على صفاء النفس تجاه الآخرين:

1- الدعاء: فإنه باب كل خير، وقد كان النبي ﷺ يسأل ربه أن يرزقه قلبًا سليمًا.

2- الإيمان بالقدر: فإن العبد إذا آمن أن الأرزاق مقسومة مكتوبة رضي بما هو فيه، ولم يجد في قلبه حسدًا لأحد من الناس على خير أعطاه الله إياه.

3- تذكر حال النبي ﷺ: الذي كان يشكر ربه على النعم التي أنعم بها حتى على غيره من الخلق حين يصبح وحين يمسي.

4- التماس الأعذار للآخرين: فعند صدور قول أو فعل يسبب لك ضيقًا أو حزنًا حاول التماس الأعذار، واستحضر حال الصالحين الذين يُؤثر عنهم قولهم: التمس لأخيك سبعين عذرًا.

5-- معرفة أحوال مَن صفت قلوبهم وتذكرها حين نتعرض لما يوغر صدورنا، أو يعكر صفوها، فهذا أفضل الخلق يتعرض له سفهاء الطائف وصبيانهم ويقذفونه بالحجارة حتى يدموا قدميه، فانطلق مهمومًا حتى إذا دعا ربه وأتاه ملك الجبال يعرض عليه أن يهلكهم، قال صاحب الصدر السليم: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم مَن يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئًا».

واستحضر معي حاله ﷺ وقد ضربه قومه فأسالوا دمه، فمسح الدم وهو يقول: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»

وأما عُلبة بن زيد، فإنه لما دعا النبي ﷺ إلى النفقة قال: اللهم إني تصدقتُ بعرضي على مَن نالني من خلقك. أي أنه سامح كل مَن اغتابه أو سبّه أو اتهمه بما ليس فيه. ثم أصبح مع الناس، فقال رسول الله ﷺ: «أين المتصدق بعِرْضه البارحة؟». . قال: أنا يا رسول الله، قال ﷺ: «إن الله تعالى قد قبِل صدقتك.» رواه البيهقي في الشعب

ويسبيك ويأخذ بلُبِّك الأحنف بن قيس سيد قومه بحجته البالغة حين أراد قومه أن يُؤَلِّبُوه على رجل وقَع فيه، فقال: إن كان دوني منزلة، فأنا أعفو عنه، وإن كان ندًّا لي، فأنا أتفضل عليه، وإن كان فوقي، فأنا أحفظ له منزلته. ولم يستجب لإغرائهم، ولا تفوّه على خصمه بشيء. إنه منطق النفوس العظيمة التي حملت قلوبًا كبيرة عنوانها: سلامة الصدر.

6- مجانبة الجدل والمراء؛ لما يفضيان إليه من إيغار الصدور، وحب الانتصار للنفس، قال ﷺ: «أنا زعيمُ بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًا.» رواه أبو داود.

وإذا كانت سلامة الصدر تتوجه إلى المسلمين عامة، فإن أولى الناس بذلك منك هم أقرب الناس إليك من أهل بيتك وقرابتك وأولي أرحامك ثم الأقرب فالأقرب، فاكسبْ نفسك أولًا، واعلم أنك بذلك تربح نفسك والآخرين، كما تفوز بالخير في الدارين الأولى والآخرة.