جمعة أمين عبد العزيز – رحمه الله

﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَأي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)﴾ (الأنعام).

الناس رجلان: رجل يعمل ما يعمل من الخير، أو يقول ما يقول من الحق وهو يبتغي بذلك الأجر العاجل والمثوبة الحاضرة، من مالٍ يجمع، أو ذكرٍ يرفع، أو جاهٍ يعرض ويطول، أو لقبٍ ومظهرٍ يصول به ويجول.

﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَأمِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)﴾ (آل عمران).

ورجلٌ يعمل ما يعمل، أو يقول ما يقول؛ لأنه يحب الخير لذاته، ويحتم الحق ويحبه لذاته كذلك، ويعلم أن الدنيا لا يستقيم أمرها إلا بالحق والخير، وأن الإنسان لا تستقيم إنسانيته كذلك إلا إذا رصد نفسه للحق والخير ﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)﴾ (العصر)، أو لأنه يحب الله ويخشاه ويرجوه، ويقدر عليه في الوجود والقدرة والإرادة والعلم وسائر ما منحه إياه، ففضلته بذلك على كثيرٍ ممن خلق تفضيلًا، وهو يعلم أن الله قد أمر بالخير فقال: ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (الحج: من الآية 77)، وأوصى بالثبات على الحق، فقال: ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)﴾ (النمل) فهو لهذا يرجو ما عند الله، ويبتغي بقوله وعمله مرضاته وحده، وقد يرتقي به هذا الشعور فيرى أن كل ما سوى الله باطل، وكل ما عداه زائل؛ فمن وجده فقد وجد كل شيء، ومن فقد شعوره فقد كل شيء، هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم؛ فهو الذي لا يدري أحدًا غيره حتى يولي إليه وجهه، أو يصرف نحوه حقه وخيره، ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)﴾ (الذاريات)، ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)﴾ (النجم).

أو لأنه يعلم أن هذه الدنيا زائلة فانية، وكل ما فيها عرض حقير، وخطر يسير، ومن ورائه حساب عسير، وأن الآخرة هي دار القرار، فهو يزهد كل الزهادة في الجزاء في هذه الدنيا، ويرجوه في الأخرى، فالمال إلى ضياع وورثة، والجاه إلى تقلص ونسيان، والعمر إلى نفاد وانقضاء مهما طال ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ (النحل: من الآية 96)، ﴿وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)﴾ (الأعلى)، وهو يرجو المثوبة نعيمًا في الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.

ومن الناس قسم ثالث يود أن يأخذ من هذه وتلك، وقلما يستقيم له الأمر، فهما ضرتان إن أرضيتَ إحداهما أغضبتَ الأخرى، وكفتا ميزان إن رجحت واحدة شالت واحدة، على أن المقطوع به أن من أراد الأولى خسر الآخرة، ومَن أراد الآخرة حازهما معًا، وصحَّ له النجاح فيهما جميعًا، ومن خلط بينهما كان على خطرٍ عظيم، ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)﴾ (الإسراء).

ومن هنا آثر الصالحون من عبادِ الله في كل زمان ومكان أن يتجردوا للغايات العليا، ويصرفوا نياتهم ومقاصدهم وأعمالهم وأقوالهم إلى الله جل وعلا، متجردين لذلك من كل غاية، متخلصين من كل شهوة ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ (البينة: من الآية 5).

ومن هنا قرأنا في تاريخنا قصة ذلك الذي عثر على حُقٍّ من الجوهر الغالي الثمين في القادسية، فقدَّمه إلى الأمير طائعًا، فعجب من أمانته وقال: «إن رجلًا يتقدم بمثل هذا لأمين، ما اسمك حتى أكتب إلى أمير المؤمنين فيجزل عطاءك، وينبه اسمك؟».

فقال الرجل: «لو أردت وجه أمير المؤمنين ما جئتُ بهذا، وما وصل علمه إليك ولا إليه، ولكن أردتُ وجه الله الذي يعلم السرَّ وأخفى، وحسبي علمه ومثوبته»، وانصرف ولم يذكر اسمه، وآثر ما عند الله، وأمثال ذلك كثير في تاريخنا الزاخر بمعاني التجرد للخير والحقِّ والعمل الصالح ابتغاء مرضاة الله. فهل تستقيم على هذا النهج القويم؟ اللهم آمين