إحسان الفقيه

عندما أطالع قصة غلام الأخدود، أتعجب لتلك الحماقة التي ارتكبها الملك الجائر، أراد أن يخمد صوت الغلام بالقتل ليدفن معه منهجه وسيرته بين الناس، فإذا به بهذا الصنيع يسدي له معروفا كبيرا، إذ ذاع صيته بين الأنام، وخلد بينهم ذكره، وآمن الناس بصدقه وبهتان عدوه.

هي الحماقة ذاتها التي يرتكبها هواة تحطيم الرموز في كل عصر، يتعمدون النيل منهم رغبة في إجهاض منهجهم الذي سار عليه الناس، فإذا بهذه الحماقة تنقلب إلى باب مفتوح على مصراعيه، لبعث فضائل الرموز من جديد.

وإِذَا أَرادَ اللَّهُ نَشْرَ فَضيلَةٍ ** طويتْ أتاحَ لها لسانَ حسودِ

لَوْلاَ اشتعَالُ النَّارِ فيما جَاوَرَتْ ** ما كَانَ يُعْرَفُ طيبُ عَرْف العُودِ

هذا الجزء من قصيدة أبي تمام يلاحق واقعنا باستمرار، كلما تطاول السفهاء على نجوم الأمة، وهو الأمر الذي يتكرر مع رموز الإصلاح، الأحياء منهم والأموات، منهم إمام الدعاة الشيخ محمد متولي الشعراوي، رحمه الله.

وإذا ذكر الشعراوي، ذكرت معه لقاءاته في تفسير القرآن الكريم، التي كانت بمثابة طفرة في علاقة الأمة بأسرها بالقرآن الكريم، فهي المرة الأولى التي صار فيها الجلوس أمام تفسير القرآن طقسا أسريا، إذ يتحلق أهل البيت الواحد أمام الشاشة الصغيرة، يستمعون إلى ذلك العالم الرباني الذي يبسط لهم آيات الكتاب، ويفيض عليهم من خواطره حول القرآن الكريم، ويتحفهم بالفوائد المتعددة، ويربط الآيات بواقعهم، بأسلوب سلس بعيدا عن التعقيد، وبعيدا عن النمطية، إضافة إلى ما تمتع به الشيخ من روح الدعابة. لم يكن الشعراوي قط عالما قُطريا، لم يكن ثروة مصرية فحسب، لكنه كان رجلا من رجال الأمة بأسرها، على المستوى الشخصي، كان برنامجه الذي يفسر من خلاله القرآن، أحد أبرز اهتمامات والدي وأسرتنا في الأردن، بل في كل بيت أعرفه.

انبرى في الآونة الأخيرة، بعض النقاد السينمائيين والكتاب والبرلمانيين يتحدثون عن الشعراوي ويتهمونه بالمتاجرة بالدين والثراء بهذه التجارة، واتهامه في وطنيته وولائه لبلاده، وقبلها نال منه كاتب آخر لا هم له سوى الهجوم على رموز الإسلام، يتهمه بالتطرف والطائفية ومعاداة المرأة والعلم والتطور. ولن أذكر هنا أسماء، لا لشيء إلا لأنني لا أرغب في أن يحققوا مرادهم في الشهرة عن طريق إثارة هذه الزوبعات على الرموز، على طريقة الأعرابي الذي بال في بئر زمزم، وجاءوا به إلى الوالي فقال: لم فعلت هذا؟ قال الأعرابي: حتى يعرفني الناس فيقولون: هذا فلان الذي بال في بئر زمزم، لكن خصوم الشعراوي خدموه بسخاء، فالرجل قد انتقل إلى جوار ربه منذ ربع قرن، وهناك جيلٌ من الشباب يراوح بين الجهل بالشيخ، وضآلة المعرفة به، فانهالت مظاهر الدفاع عن الشعراوي من قبل شرائح واسعة، سواء من قبل العلماء أو المؤسسة الرسمية المتمثلة في الأزهر، أو مواقع التواصل الاجتماعي، فكانت فرصة طيبة لإحياء سيرة الشعراوي والتعريف به. لكن ينبغي أن لا يفوتنا في هذا المقام أن نشير إلى مغزى الهجوم على الشعراوي، رغم أنه عالم أزهري لا شأن له بالتيار الإسلامي الذي صار الانتساب إليه في الوقت الحالي جريمة، ومرادفا للإرهاب والتطرف لدى النظام، وزمرة من يسمون أنفسهم بالتنويريين.

وكون الشعراوي أحد رموز الأزهر فهذا في حد ذاته ينفي عنه تهمة التشدد، لما عرف عن الأزهر بالوسطية التي وصلت في بعض الأحيان إلى أن توصف بالتفريط والتهاون والقصور، كما كان يرى بعض أتباع الاتجاهات السلفية. والسؤال الذي يطرح في وجه التنويريين الحاليين: هل اكتشفتم فجأة تطرف الشعراوي؟ ولماذا لم يشن أسلافكم من أدعياء التنوير حملاتهم على الشيخ الشعراوي في الماضي؟

الجواب بشكل مباشر، أنها ليست قضية نقد الشيخ الشعراوي، بل هي قضية ضرب الرموز الدينية وتوهين مكانة العلماء لدى الناس، فبعد أن تم إضعاف وتهميش وإقصاء صوت التيار الإسلامي حتى فصائله النائية عن التشدد والتطرف، انتقل أدعياء التنوير إلى مرحلة ملاحقة رموز الأزهر، الذين تجتمع عليهم كلمة الناس في حياتهم وبعد مماتهم، بحجة نزع القداسة عن الأشخاص، وتكسير الأصنام كما يزعمون. هي خدعة مفضوحة، لأن هؤلاء العلماء والمصلحين أنفسهم علّموا الجماهير أنه لا قداسة لأحد من الناس، وأنه ليس هناك بعد الأنبياء من معصوم، وكل عالم له زلاته وأخطاؤه، وكلهم يؤخذ من قوله ويُرد عليه. ومن أبرز ما يتهمون به الشيخ الشعراوي، حديثه عن موقفه الذي صرّح به لدى سماعه عن نكسة 1967 التي هزمت فيها الجيوش العربية أمام العدو الصهيوني، حيث سجد لله شكرا. ومع أن المقطع قديم، إلا أنهم استدعوه ليحاكموا الرجل بتهمة الخيانة، وقاموا ببتر سياق الحلقة، ليتسنى لهم ترويج الفرية، وبعد أن بحثتُ عن أصل المقطع واستمعت إليه، وجدت أن الشعراوي تحدث في اللقاء أنه سجد لله شكرا يوم النكسة، ويوم نصر أكتوبر، وبين السجدتين فارق في الدوافع، وأفصح أن ولده عاتبه لذلك فأوضح الشيخ له بما أريد أن أنقل نصّه للقارئ: قال الشعراوي: «فرحت أننا لم ننتصر ونحن في أحضان الشيوعية، لأننا لو نُصرنا ونحن في أحضان الشيوعية لأُصبنا بفتنة في ديننا». فهذا تفسير واضح لدواعي سجوده، وهي قناعته بأن الانتصار كان سيمكن للشيوعية في بلاده، وبهذا التوضيح يقضي الشعراوي على أي احتمالات لاتهامه بعدم الانتماء لبلاده، لكن هذا دأب المشغبين وهواة التجريح وإسقاط الرموز. ومع الأسف يدعون ذلك بحق الشعراوي، وهو الرجل الذي كان عضوا في الحركة الوطنية التي قاومت الاحتلال البريطاني لمصر، واعتقل أكثر من مرة في عهد الاحتلال بسبب إلقاء الخطب النارية المنددة بالاحتلال عندما كان رئيسا لاتحاد الطلبة عام 1934.

تتم محاولة إسقاط وتحطيم الرموز على مرأى ومسمع من النظام، الذي ترك الحبل على الغارب لأدعياء التنوير للتطاول ليس فقط على العلماء، بل على الصحابة الكرام، رضوان الله عليهم، بل النيل من نصوص الوحيين، يتم كل ذلك تحت مظلة مواجهة التطرف والأفكار المغذية للإرهاب، فتحرك هؤلاء الأدعياء بأريحية على بساط التشغيب والتحقير لعلماء ورموز الأمة. إنها لجريمة كبرى تصنع الإرهاب والتطرف حقيقة لا مجازا، فغياب كلمة العلماء والمصلحين وتشويه صورتهم وزعزعة مكانتهم لدى الناس، سوف يسقطهم كمرجعيات علمية ودعوية توجه الناس إلى الفكر الوسطي، وبزعزعة هذه المكانة يسير الناس بلا ضابط في التلقي والتطبيق العملي، ومن ثم يكونون عرضة لتلوث الأفكار واستقبال كل شاردة ووافدة من شوائب الغلو. النظام في مصر بدلا من مواجهة الأفكار المتطرفة بإطلاق يد العلماء والدعاة الأزاهرة ودعمهم في توجيه المجتمع والتمكين لهم عبر قنوات الاتصال مع الشعب وصيانة مكانتهم بين الناس، بدلا من ذلك يغري أدعياء التنوير بالنيل منهم، بهذا الصمت والتغافل، بل والدعم أيضا، يحدث ذلك في بلد الأزهر الذي كان منارة أضاءت للعالم الإسلامي بأسره.

في كل مرة أتابع فيها شؤون الأشقاء المصريين، أصطدم بمظهر من مظاهر مواجهة التدين بشكل مباشر وغير مباشر، وأصبح هذا التدين تهمة يحاول أصحابها التبرؤ منها، خوفا من اتهامهم بالتهم المعلبة الجاهزة في الانتماء لجماعات محظورة. تلك أحوال دار الكنانة مع رموزها ومصلحيها، أما الشعراوي، فنقول نيابة عنه لمن يجتهدون في إسقاطه: شكرا لحسن تعاونكم، فقد عرّفتم به الجاهلين، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

المصدر: القدس العربي