بقلم: د. رشاد لاشين
الأب أهم شخصية في الأمة الإسلامية هي شخصية؛ باعتبار أنَّ الأسرةَ هي وحدة بناء الأمة الإسلامية، فإذا نجح الأب وأعطى وقدَّم نجحت الأمةُ الإسلاميةُ كلها وأعطت وتقدمت؛ والعكس بالعكس فحينما يُفرِّط الأب ويضيع فقل على الأمة السلام، وواجبات الأب كثيرة ومتعددة يجب أن يحصيها ويؤدي حقَّها كما أمر رسول الله ﷺ: «كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير راع على الناس ومسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم، والعبد راعٍ على مال سيده وهو مسئول عنه. ألا فكلكم راع ومسئول عن رعيته» (رواه البخاري من حديث نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما).
وقيام الأب بواجباته يبرئ ذمته أمام الله تبارك وتعالى يوم القيامة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ (التحريم: 6).
نقدم الإمام حسن البنا أبًا ومربيًّا وراعيًا، لم يحرص فقط على تربية أبنائه بل شارك في تربية إخوته وخدمه وأطفال الشارع وأصدقاء الأبناء، بل وأطفال الأمة كلها، وهو الذي كان يقول: «لوددت أن أبلغ هذه الدعوةَ حتى للأجنةِ في بطون أمهاتها»، نُقدِّم كيفية تربية الإمام حسن البنا لأبنائه كنموذجٍ للأمةِ تتعلم منه وتحذو حذوه فتغير الواقع وتُنشئ جيلًا جديدًا يصنع مستقبل الأمة من جديد.
فلقد كان الإمام البنا -رحمه الله- في بيته نعم الأب ونعم المربي قدَّم نموذجًا راقيًا في الأبوة الناجحة فكان هو: (القدوة العملية – وضمير المسئولية – ورائد الرعاية – هو فيض الحنان وروعة الإحسان – ومصدر العطاء – ومنبع الكرم والجود – وكنف الحماية – و مصدر الرحمة والحزم – وقائد الانضباط مع الحب – وهو العين الساهرة لتحقيق النجاح مع الصلاح).
ولقد كان الإمام البنا لأولاده بحق هو: (راسم طريق المستقبل – ومخطط برنامج التألق – وهو مذلل عقبات الطريق – ومقيل عثرة السائر – وحامي درب النجاح – وهو مفجر التنمية البشرية – وصانع النهضة الاقتصادية – وراعي التربية الأخلاقية – هو مسعد القلوب – ومجفف الدموع – ومخفف الكروب – هو حامل الراية – والموصل للغاية – والساعي لوقاية الأهل من نار وقودها الناس والحجارة).
مصداقية الريادة
كثيرًا ما نسمع عن أساتذة في التربية ورواد في رعاية الطفولة ثم ننظر إلى حياتهم فإذا هي بعيدة كل البعد عمَّا ينادون به من أفكارٍ ومبادئ. ومن أمثال هؤلاء دكتور (سبوك) طبيب الأطفال الأمريكي الذي ترك مهنة الطب وتفرَّغ لعملية تربية ورعاية الطفولة وحقق شهرةً كبيرة، ولكن ما ينادي به كان غائبًا عن حياته ومنزله حتى فضحه أبناؤه الذين اشتكوا من فقدان الدفء والحنان والرعاية من أبيهم الذي ينادي هنا وهناك برعاية الطفولة، وساءت علاقته مع زوجته حتى انتهت إلى الطلاق وتفككت الأسرة وفقدت كل رعاية من رائد الرعاية.
ولكننا هنا أمام تطبيقات تربوية رائعة وأفعالٍ تُصدِّق الأقوال وواقع يشهد بالنجاح. استقيناها من عدة حوارات مع أبناء الإمام البنا رحمه الله.
(1) الدور التربوي للإمام حسن البنا مع أبنائه
أ – الأسرة الناجحة المتميزة التي كونها الإمام البنا
نجاح في كل الميادين:
كما نجح الإمام البنا -رحمه الله- في رسالته الكبرى وهي إحياء وتجديد الإسلام حتى انتشرت دعوته في كل البقاع من أصغر قرية إلى أكبر دولة، فقد نجح كذلك في تكوين أسرة ناجحة متميزة ربَّاها في كنفه على الإيمان بالله وعلى التميز في الحياة وطبَّق معها قواعد التربية الصحيحة وقدَّم نموذجًا عمليًّا متميزًا في دور الأب في رعاية الطفولة.
أبناء الإمام حسن البنا رحمه الله:
رزق الله الإمام البنا 6 من الذرية: (ولد واحد + 5 بنات) وهم بالترتيب:
1- وفاء: البنت الكبرى وزوجة الداعية سعيد رمضان -رحمه الله- وكان عمرها يوم استشهاد الوالد 17عامًا.
2- أحمد سيف الإسلام المحامي الأمين العام لنقابة المحامين المصرية وعضو البرلمان المصري سابقًا: وُلد في 22 نوفمبر سنة 1934 وحصل على ليسانس الحقوق سنة 1956 وليسانس دار العلوم سنة 1957، وكان عمره يوم استشهاد الوالد14 سنة وشهرين و20 يومًا.
3- د.سناء أستاذة التدبير المنزلي وهي محاضرة في جامعات السعودية، وكان عمرها يوم استشهاد الوالد 11 سنة ونصف.
4- المهندسة رجاء: مهندسة قُوى، وكان عمرها يوم استشهاد الوالد حوالي خمس سنوات ونصف
5- الدكتورة هالة أستاذة طب الأطفال بجامعة الأزهر، وكان عمرها يوم استشهاد الوالد حوالي سنتان ونصف.
6- الدكتورة استشهاد: أستاذة الاقتصاد الإسلامي، وقد كانت جنينًا في بطن الأم عند استشهاد الإمام رحمه الله، وكان مقررًا أن يتم إجهاض الأم لإنزالها بسبب إصابة الأم بمرض القلب وخطورة الحمل على حياتها، وقد حدد الطبيب موعدًا لذلك وهو 12 فبراير الذي استشهد فيه الإمام رحمه الله فشاء الله أن يستمر الحمل وتُولد وتُسمَّى استشهاد.
** وتوفي اثنان في حياة الإمام وهما: (محمد حسام الدين) وكان بين سناء ورجاء، و(صفاء) وكانت بين رجاء وهالة.
ب- التأسيس الصحيح لرعاية الأبناء قبل ولادتهم
* رعاية الطفولة تبدأ بحسن اختيار الأم:
حرص الإمام حسن البنا -رحمه الله- على التأسيس الصحيح لرعاية أبنائه بحسن اختيار زوجته، يقول الأستاذ محمود عبد الحليم عن زواج الإمام البنا: «وكان ممن استجاب للدعوة من أهل الإسماعيلية أسرة كريمة من أسرها تُدعى أسرة الصولي، وهم تجار من متوسطي الحال، وكانت هذه الأسرة من الأسر المتدينة بطبيعتها وممن يُربون أولادهم على الدين، وكانت والدة الأستاذ تزور هذه الأسرة فسمعت في إحدى ليالي زيارتها صوتًا جميلًا يتلو القرآن فسألت عن مصدر ذلك الصوت فقيل لها إنها فلانة تُصلي، فلما رجعت الأم إلى منزلها أخبرت نجلها بما كان في زيارتها وأومأت إلى أنَّ مثل هذه الفتاة الصالحة جديرةٌ أن تكون زوجةً له، وكان ما أشارت به، فقد تزوجها فكانت أم أبنائه، وهي التي رافقته في السراء والضراء، وكانت خيرَ عونٍ في دعوته حتى لقي ربه شهيدًا مظلومًا». (الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ، محمود عبد الحليم ص 68).
* اختيار واعٍ وتدقيق مهم:
وتقول ابنته سناء عن السمات التي رغبت جدتها والدة الإمام في اختيار زوجته:
«وكانت جدتي رحمها الله ذهبت إلى عدة منازل من بيوتِ كبار الإسماعيلية. وما لفت نظر جدتي لأبي إلى أمي أن بيتها رغم أنهم كانوا ميسوري الحال جدًّا إلا أنهم كانوا يقومون بعمل الأشياء بأنفسهم حتى إنهم كانوا يطبخون للعاملين عندهم، فشعرت أنهم بيت كرم وسخاء، وحتى مع أنه لم يوجد وقتها مدارس إلا أن جدي أحضر شيخًا يقرأ القرآن يوميًّا، ثم بعد الظهر كان هذا الشيخ يعلم أهل البيت من النساء درس فقه؛ لذلك كانت والدتي رحمها الله رائعةً في الفقه. فوالدي رحمه الله أخذ الزوجة الحسنة في المنبت الحسن».
ثم تتحدث عن محبة جدها لأمها وتأثره بالإمام الشهيد واستجابته له قبل زواجه من ابنته فتقول: «وكان جدي لأمي يحب والدي جدًّا، ويستشيره في كل أموره حتى إنَّ والدتي كانت مخطوبةً لشخصٍ آخر فأتى إلى جدي يطلب منه أن يصطحب ابنته إلى السينما (والدتي) فعرض جدي لأمي الأمر على والدي وسأله عن حكم ذلك فأخبره والدي أن هذا حرامٌ، فلما عرف جدي أن ذلك الشخص طلب منه شيئًا حرامًا ردَّ إليه الذهب وقال إنه ليس عنده بنات للزواج».
ج- توفير البيئة التربوية المناسبة في المنزل
من أهم عوامل الرعاية الصحيحة توفر البيئة المناسبة التي تأخذ بيد الطفل بسهولةٍ ويسرٍ إلى السلوك الصحيح، ولقد كان سلوك الإمام البنا في بيته وعلاقته بزوجته وتعامله مع أبنائه بمثابة بيئة صالحة طيبة تهييء لنشء صالح: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ﴾ (الأعراف: آية ٥٨)،
وقد تمثلت البيئة الصالحة فيما يأتي:
* البيت في خدمة الدعوة:
تقول ابنته سناء: «وسبحان الله بعد زواجها وهو بالنسبة لها مثال للتضحية؛ لأنها كانت مؤمنةً جدًّا بدعوته، وكانت تعتبر الإخوان أبناءها، قد تقف في المطبخ مرةً واثنتين وثلاثًا، ودون أن يتكلم والدي بل حبًّا منها لهم حتى بعد استشهاده رحمه الله كان الإخوان يخرجون من السجون ويأتون إلينا للسلام علينا، فكان مستحيلًا أن يمشي من بيتنا دون أي طعامٍ وحتى لو لم يكن هناك شيء جاهز تذبح وتعدُّ وهي سعيدة جدًّا».
* الزوجان مثال للعطاء والتضحية من أجل الدعوة:
تقول ابنته سناء: «ولما جاءوا القاهرة وأخذوا مكتب المركز العام أعطت والدتي كل فرشها تقريبًا ليضعه في المركز العام ولم يبقَ في بيتنا وقتها إلا القليل جدًّا، حتى السجاد والستائر التي شغلتها بيدها، أما بيتنا فكانت ستائره بسيطة وبعض الغرف وضعنا فيها أي شيء والأرضيات (كليمات)، ولم يكن ذلك يُؤثِّر فيها أبدًا وكأنها لم تتبرع بفرش منزلها أبدًا».
* العلاقة يظللها التوافق والانسجام والثقة والإيمان والاحترام المتبادل:
تقول ابنته سناء: «وكانت تثق فيه ثقةً كبيرة، فتأتي الأخوات ويجلسن مع والدي ويتحاورن طبعًا والباب مفتوح، ولم تتضايق يومًا أو تسأل ما الذي يفعله هؤلاء هنا كما تفعل بعض السيدات، بل إيمانها الشديد به كان فوق التصور، حتى منزلنا كان من المنازل التي نزلت في خريطةِ الهدم فطلبت والدتي منه أن يشتري منزلًا صغيرًا لها ولنا، فردَّ عليها بإيمان عميق: يا أم وفاء قصورنا تنتظرنا في الجنة، ولن يضيِّعَنا الله في الدنيا، وانتقل هذا الإيمان لوالدتي عن حبٍّ وليس على مضاضةٍ وغضب كما تفعل الكثيرُ من الزوجات الآن، ودائمًا ما كان ينادي والدتنا بـ (يا أم وفاء)، وهي تناديه: يا أستاذ حسن؛ ولذلك كان الاحترام متبادلًا بينهما».