كان الإمام الشهيد حريصًا على أداء العبادات على أكمل وجه ، فكان حريصًا على أداء الصلاة في وقتها ، وقد نبه إخوانه إلى ذلك فقال : " قم إلى الصلاة متى سمعت النداء مهما تكن الظروف " وكان حريصًا على قيام الليل مهما اشتد به النصب مع حب وشغف بالقرآن لا ينتهي .
- صلاته :
يقول الأستاذ محمود عبد الحليم : " لقد كنت في أيام اتصالي بالإخوان المسلمين حريصًا على مراقبة كل ما يدور في مركزهم العام ، لا سيما ما يصدر من مرشدهم من حديث وأعمال .
وقد لفت نظري أن صلاة المرشد – وكان دائمًا هو الإمام – لا تكاد تختلف عن صلاة كثير من الناس ، فهي وإن كانت صلاة خاشعة مطمئنة ؛ لكن رائيها لا يمكن أن يصفها بأنها صلاة مطولة كتلك التي تمارس في مساجد بعض الجمعيات ، أما في الصلوات الجهرية فكان له فيها – رحمه الله – أسلوب آخر .. كان يطيل فيها من قراءة القرآن.. ولكن هذه الإطالة لم تكن مجرد إطالة ولا القراءة مجرد قراءة، وإنما كانت قراءة هادفة، كانت قراءة من مواضع مختارة.. يتناول في كل صلاة منها معالجة موضوع معين من المواضيع الحساسة التي تمس النفوس وتعالج مشاكل المجتمع، ففي صلاة يستعرض علي المأمومين أصناف الناس، وفي صلاة أخري يستعرض طبائع النفوس، وفي ثالثة يعرض صورة لغرور السلطة وعواقبه، وهكذا من المواضيع التي يخرج المأمومون من كل منها بتوجيهات محددة وتعاليم معينة .
وغير خافِ على القارئ المجرب أن سماع المؤمن القرآن وهو واقف في الصلاة بين يدي الله ذو أثر في النفس أشد عمقًا وأعظم وقعًا من سماعه القرآن في غير هذا الوضع.. وقد يفهم من القرآن في هذا الموقف ما لا يفهمه منه في غيره من المواقف.. لا سيما إذا كان القارئ أستاذاً مربيًا يفهم ما يقرأ، ويعرف كيف يتلو الآية تلاوة تبرز ما خفي من معانيها فهو يعرف كيف يكون الوقف ويعرف كيف يكون الوصل.. ولا يمر بآية وعيد وعذاب إلا استعاذ في سره بالله، ولا يمر بآية من البشريات إلا طلب في سره من الله المزيد، وهكذا كانت الصلاة إحدى وسائل حسن البنا في تثبيت أفكار دعوته في النفوس وفي تربية من ورائه وتوجيههم .
لكن القليل من الإخوان من لمس من حسن البنا اختلافًا عن الناس في الصلاة التي بينه وبين ربه أعني الصلاة – يحكي الأستاذ عمر التلمساني عن موقف صحبه فيه إلي لمنزلة ، بعد كثرة الإجهاد من السفر ، والجلوس مع الإخوان ، ومتابعة أنشطتهم ، حدث ما يلي :
وبعد الحفل صعدنا إلى الطابق الثاني في منزل لنأخذ قسطًا من الراحة ، ودخلت معه إلي حجرة بها سريران وعلى كل سرير ناموسية ، لأن المنطقة كانت زاخرة بجحافل الناموس ، التي لا ترتوي إلا من امتصاص دماء البشر ، ودخل سريره وأرخى ناموسيته ، وفعلت مثلما فعل على السرير الآخر ، وكان التعب والإجهاد قد بلغ مني مداه ، فاعتراني قلق وبعد خمس دقائق تقريبًا سألني فضيلته :" هل نمت يا عمر ؟ قلت ليس بعد ، ثم كرر السؤال بعد فترة ثم بعد فترة ، حتى ضقت بالأمر ، وقلت في نفسي : ألا يكفيني ما أنا فيه من إجهاد وقلق حتى تضاعف علي المتاعب ! ألا تدعني أنام ؟ كان هذا حديثا صامتًا يدور بيني وبين نفسي فصممت على ألا أرد على أسئلته موهمًا إياه أنني نمت ، فلما اطمئن إلى نومي نزل من سريره في هدوء كامل ، وعند الباب أخذ القبقاب بيده وسار حافيًا حتى وصل دورة المياه ، حيث توضأ وأخذ سجادة صغيرة ، وذهب إلى آخر الصالة بعيداً عن الغرفة ، التي ننام فيها .. وأخذ يصلي ما شاء الله له أن يصلي ونمت أنا ما شاء الله لي أن أنام .
يقول عمر بهاء الأميري : " لقد راقبته أدق المراقبة ، حتى إنني أتابعه من شقوق الباب وهو يصلي في غرفته خاليًا قبل النوم ، وكنت أفحص خشوعه فأراه أطول سجوداً وأكثر إقبالاً علي الله منه يصلي بنا "
الرجل القرآني :
القرآن الكريم نور يضيء جنبات النفوس ويتسرب إلي أعماق القلوب فيهزها ويضيئها ولكن هذا النور لا يضيء إلا النفوس التي فتحت له مغاليقها واستدعته إلي دروبها ، لتستضيء بنوره وتتلألأ بأسراره العجيبة ،
ونحسب الإمام البنا كان واحداً من الذين شغلهم القرآن الكريم تلاوة وحفظاً وفهمًا وعملاً ، فكانت حياتهم كلها له . وهذه بعض المواقف المشهودة للرجل رحمه الله .
غاب عن الناس من خلقه ما جعله بين نفسه وربه يستره عن الناس فلا يطلع عليه إلا خاصة أهله ، فهو في بيته – شهد الله – لا يفتر عن مصحفه ولا يغيب عن قرآنه ولا يغفل عن ذكره ، يتلو القرآن على الحافظ منا فيسمع له ويلقي بالمصحف إذا لم يجد حافظاً إلى الصغير فيراجع عليه ويملأ البيت بالقرآن والتلاوة سابحًا في آيات ، غارقاً في ذكريات ، صاعداً إلى سماوات ، يعرف الطريقة التي كان يقرأ بها النبي صلي الله عليه وسلم فيقرأ بها والمواقف التي كان عندها فيقف عندها .
وكان تعرو جسمه رعدة وتأخذ نفسه روعة فيتجهم لدى آيات الوعيد ، ويشرق عند آيات البشري والنعيم ، خارجًا عن الجو الذي يحيا فيه غائبًا عن معني بعيد بعيد .
يقول عنه الكاتب الأمريكي " روبير جاكسون " : لقد حمل البنا المصحف ووقف به في طريق رجال الفكر الحديث ، ثم يقول عنه : وكان الرجل القرآني يؤمن بأن الإسلام قوة نفسية في ضمير الشرق وأنها تستطيع أن تمده بالحيوية التي تمكن له في الأرض .
وكان رحمه الله ذا فهم قرآني راق نابع من قلب داعية ، ففي ذلك يقول محمد عبد الحميد أحمد : " من الذكريات الجميلة التي لا تزال راسخة في أعماق نفسي ما فتح الله على إمامنا الشهيد خلال محاضرات يوم الخميس من كل أسبوع لقسم الطلاب بالمركز العام ، وكان موضوع المحاضرة " دراسات قرآنية " تناول فيها موضوع الحروف المقطعة في أوائل بعض السور من القرآن الكريم مثل ( ألم ، ق ، ص .. الخ ) وتناول أراء المفسرين في دلالتها وحكمتها .. ثم هداه الله وكشف في هذه الحروف إذا جمعت وحذف المكرر منها تكون عبارة تدل على أن هذه الحروف لها حكمة ربانية وسر إلهي ، وهذه العبارة هي " نص قاطع حكيم له سر " وقد عرضنا هذا التصوير على الشيخ الصالح " كامل حسن " وكيل كلية الشريعة سابقًا رحمه الله فكان جوابه إن القرآن كما وصف الرسول عليه الصلاة والسلام لا تنتهي عجائبه ، وهذا فتح من الله يؤتيه الله من يشاء من عباده الصالحين ، والإمام البنا رجل قرآني امتزج القرآن بدمه ولحمه فلا عجب أن يهديه بتأمله وتدبره إلي هذه الملاحظة البديعة حقاً .
ويصفه الشيخ الغزالي فيقول :" إن الله جمع في شخصه مواهب تفرقت في أناس كثيرين وقد استفاد من تجارب من سبقوه من القادة ، وكان يدمن قراءة القرآن ويتلوه بصوت رخيم ويحسن تفسيره كأنه الطبري أو القرطبي ، ويفهم أصعب المعاني ويعرضها على الجماهير بأسلوب سهل قريب .
وقد درس السنة والفقه ففهم منهج السلف والخلف وأحاط بالتاريخ الإسلامي واطلع على منهج محمد عبده ، ورشيد رضا وتعمق في حاضر العالم ومؤامرات الاحتلال الأجنبي .
منقول بتصرف من كتاب أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين – للأستاذ -جمعه أمين عبدالعزيز – رحمه الله