اإن نقاء السريرة وإخلاص النية وصفاء النفس من أهم صفات الداعية الحق ولا يجد القبول من الناس إلا بها وقد كان الإمام الشهيد علي قدر كبير من تلك الصفات النفسية الضرورية لكل إمام مجدد ونستكمل معا عرض  بعضها :

4  - محاسبة النفس حتى على خلجاتها وخواطرها :

ومن المواقف النفسية المهمة التي تدل علي شدة محاسبة الإمام البنا لخلجات نفسه ومراقبة الشهوات النفسانية الدقيقة ما حدث بعد أن أصدر حسين سري رئيس الوزراء سنة 1941م قراراً بنقل حسن البنا إلى قنا ، على أن يكون التنفيذ فوراً وإلا الاعتقال ، ورأي الأستاذ المرشد في الأمر انتقاصًا من عزة الإيمان ، وامتهانًا لكرامة الإسلام ، وتخويفًا بالاعتقال، وكأنه السيف المسلط من قبل الحكومة على رقاب الإخوان وهو في مثل هذه الحالات ينقلب اللين والتسامح والرحمة والرأفة المعهودة في شخصية حسن البنا إلى الإسلام وصمود الحق ضد كبر الباطل وغروره .

والموقف يتلخص في أنه بعد أن أصدر حسين سري القرار رفضه الإمام الشهيد ، مستعداً للاعتقال المقرون عند الرفض ، وتجمع خلفه الإخوان وأصبحت الحكومة في موقف حرج ، خاصة وقد حددت موعداً نهائياً للتنفيذ ، وساقت عليه القوم لإقناع البنا بالقبول ، وتخويفه من إصرار حسين سري واستحالة عدم رجوعه عن قراره ، لكن أمام إصرار الإمام البنا وتمسك الإخوان بحقهم تدخل القصر الملكي في الموضوع ، وقبل انتهاء الموعد المحدد للتنفيذ بنصف ساعة ، اتصل القصر بالأستاذ عبد الحكيم عابدين ، وطلب منه ضبط عواطف الإخوان ، وطمأنه أن الموضوع بين يدي الملك الذي سوف يوجد له الحل خلال لحظات ، فدخل الأستاذ عابدين يخبر المرشد بذلك ، ونترك له تكملة القصة :

فدخلت علي المرشد وحوله الإخوان ،وهنا موقف من أعظم المواقف في أدب النفس ، وفي مراقبة الشهوات النفسانية الدقيقة من مواقف حسن البنا ، لأنني بمجرد أن دخلت عليه قلت : يا أستاذ يبدو أن المسألة ستنفرج ، اتصل بي حسنين باشا الآن وقال : المسألة بيد الملك ينظر فيها ، فيبدو أن المسألة ستنفرج ، ويزول شبح الاعتقال ، فإذا به يقول : الله لا يجعلها تنفرج ، نريد أن نرى إلى متى يظلون يخيفوننا بالاعتقال ، وأخذ هذا الموقف في نفوسنا وألبابنا ، ورأينا فيه موقفًا رائعًا جداً من معاني الإباء والجلد والاستعداد للبذل والتضحية في سبيل الله والبلاء في سبيل دعوة الحق ، لكن حسن البنا لم يلبث أن مسح هذا الموقف بنفسه ، مسحة عظيمة وأثبت لنا أنه ليس موقفاً جديراً به إذ قال : والله ما كادت تمر ثوان بين الثورة التي قام فيها لا جعلها الله تنفرج وبين مقولته الثانية : قال أستغفر الله العظيم ، هو الاعتقال سوف يتحول من أن يكون بلاء في سبيل الله إلى أن يكون شهوة من شهوات النفس ؟ ثم أخذته هزة سيطرت على كل مشاعره وقال بصوت متهجد : اللهم إن كنت تعلم أن هذا الاعتقال شهوة من شهوات نفسي فاصرفه عني واصرفني عنه وهنا وجدنا أنفسنا فعلاً مشدوهين .

إن هذا الرجل وفي هذا المكان يسلط من إيمانه رقابة على أدق أحاسيسه فيدركه الخوف أن تكون هذه الكلمة الأبية تنطوي علي شهوة من شهوات النفس في الاعتقال ، وما وراء الاعتقال من سمعة ، وما وراء الاعتقال أن يقال : هذا مجاهد ، وما وراء الاعتقال من ثناء وإعجاب ، وخشي أن تكون حظًا من حظوظ النفس ، لا بلاء ولا امتحانا في سبيل الله ، فقال هذه الكلمة : اللهم إن كنت تعلمها شهوة من شهوات نفسي فاصرفها عني واصرفني عنها ، وجلسنا صامتين حوله ، وهو لا يتكلم ، وقد شعرنا بأننا رفعنا عن هذه الأرض وعشنا بأجنحة خضراء تحت ظلال العرش ؛ لأنه مهما كان معنى الكلمة ، ومهما كانت حافظة لحرفيتها ، فإن إلقاءها في هذا الجو لا يمكن أن يعاد إلا إذا عاد حسن البنا وعادت المسألة مرة ثانية ليعيش السامع هذا الجو الذي عشناه .

 

منقول بتصرف من كتاب "أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين"  للأستاذ  جمعة أمين عبدالعزيز- رحمه الله