وائل قنديل

الفلسطينية ليلى عودة، الزميلة الصحفية، متّهمة من إدارة القناة الفرنسية التي تعمل مراسلة لها بأنها تستخدم كلمة "شهيد" حين تتحدّث عن الشهداء الذين يقتلهم الاحتلال الإسرائيلي ... ليس هذا فحسب، بل إنها متّهمة أيضا بجريمة أكبر حين تردّد عبارة "أراضي عام 1948" بدلاً من استخدام كلمة "إسرائيل".

دفعت هذه الجرائم "الشنيعة" القناة الفرنسية إلى إجراء تحقيق عاجل مع المراسلة وثلاثة صحفيين عرب آخرين، شريف بيبي (فلسطيني ــ فرنسي ) ودينا أبي صعب (مراسلة متعاونة  من سويسرا) وجويل مارون (مراسلة من لبنان)، وانتهى التحقيق إلى قرارات عقابية متفاوتة بين الإيقاف المؤقت عن العمل مع لفت النظر والإنذار، وإنهاء العمل بشكل كامل، كما جرى مع الزميلة اللبنانية، جويل مارون، التي لم تكتف القناة بإنهاء عملها، بل قرّرت أن تتقدّم بشكوى ضدها.

الزملاء الأربعة متهمون بأنهم عربٌ يحبون فلسطين ويعرفون تاريخهم ولا يفرّطون في هويتهم، ويسمون الأشياء بمسمياتها الحقيقية: الذي يموت وهو يقاوم المعتدي على وطنه ومسكنه شهيد ... والغريب الذي استوطن أرضًا بالقوة وقتل سكانها الأصليين وأنشأ كيانًا على هذه الأرض اسمه احتلال، والوطن اسمه وطن، والإنسان اسمه إنسان، والصحافة ليست مهمتها تزوير الحقائق وتزييف التاريخ، وإلا فإنها تتحوّل إلى مهنةٍ أخرى قذرة.

تقول القناة الفرنسية إنّ المتهمين الأربعة "خالفوا سياستها الإعلامية في التعامل مع الصراع الفلسطيني ــ الإسرائيلي". هنا تتعرّى القناة من كلّ قيم الحياد المهني، وتمارس التزييف في أوضح صوره، حين تستعمل عبارة "الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي"، بما يوحي أنّ شعبين يتصارعان على قارّة مهجورة مكتشفة حديثًا، في حين أنّ كلّ قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن تعتبر أنّ الأراضي الفلسطينية محتلة من الكيان الصهيوني.

هل استشعرت القناة الفرنسية فجأة، ومن تلقاء نفسها، خطرًا على عفّتها المهنية وشرفها الإعلامي من منشورات الزملاء على حساباتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي؟ بالطبع لا، إذ لم تتحرّك القناة إلا بناءً على طلب من مركز سيمون فيزنتال، والذي يتركّز نشاطه في تحسين صورة الاحتلال الإسرائيلي، وينحاز إلى جانب إسرائيل، والذي أرسل إلى إدارة المحطة في 7 مارس الحالي، للتعبير عن "صدمته من معاداة السامية لدى مراسلي القناة العربية".

إذن، أنتَ بصدد إجراءات عقابية اتخذت بضغوط صهيونية، فضلًا عن هذا البطش بالصحفيين العرب، يتأسّس على سياسات فرنسية رسمية يتبنّاها وينفذها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، شخصيًا منذ العام 2019، تقوم على البدء في توقيع عقوبات على كلّ من يعادي الصهيونية، وليست السامية فقط. وفي ذلك نشر المفكر العربي، عزمي بشارة، دراسة في العام نفسه تحت عنوان طويل "أصحيح أن معاداة الصهيونية هي أحد الأشكال الحديثة لمعاداة السامية؟"، تناول فيها تعهّد الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، باتخاذ "إجراءاتٍ" قانونية لمكافحة معاداة الساميّة بقوله: "سنتّخذ إجراءات وسنصدر قوانين وسنعاقب"، ثم شدّد في خطابٍ، ألقاه في حفل العشاء السنوي للمجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا، أنّ بلاده ستعتمد في تشريعاتها تعريفًا لمعاداة السامية، كما حدّده التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة، بحيث يتضمّن معاداة الصهيونية، وأضاف إنّ "معاداة الصهيونية هي أحد الأشكال الحديثة لمعاداة السامية".

هذا يعني أنّ الأمر مقطوع الصلة بما تدّعيه القناة الفرنسية من حرصٍ على المهنية وحياد الإعلام واستقلاله عن الحكام، بل هو تطبيقٌ حرفيٌّ لسياسة فرنسية عنصرية منحازة للجانب الصهيوني بمنتهى الوضوح، وهو ما يدفعنا إلى التساؤل عن ردود الأفعال على ما جرى وسوف يجري، ومن ذلك مثلًا: هل نسمع أنّ مؤسّسة إعلامية عربية قرّرت أن تسارع إلى استيعاب الزملاء المتضرّرين من إجراءات القمع المهنية ذات الدوافع الصهيونية في طواقم عملها؟

هل نسمع أنّ من ضيوف هذه القناة من المثقفين والكتّاب العرب الذين يطنطنون بشعارات القومية العربية والهوية والدفاع عن الحق الفلسطيني من قرّر مقاطعتها وعدم الظهور على شاشتها حتى تنحاز إلى الاعتبارات المهنية الحقيقية، بدلًا من تبنّي المقاربات الصهيونية من القضية؟ ثم ماذا عن موقف زملائهم العرب في القناة نفسها؟

المصدر: العربي الجديد