د. يوسف القرضاوي

الإسلام دين واقعي لا يحلق في أجواء الخيال والمثالية الواهمة، ولكنه يقف مع الإنسان على أرض الحقيقة والواقع، ولا يعامل الناس كأنهم ملائكة أولو أجنحة مثنى وثلاث ورباع، ولكنه يعاملهم بشرًا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق.

لذلك لم يفرض على الناس -ولم يفترض فيهم- أن يكون كل كلامهم ذكرًا، وكل صمتهم فكرًا، وكل سماعهم قرآنًا، وكل فراغهم في المسجد. وإنما اعترف بهم وبفطرتهم وغرائزهم التي خلقهم الله عليها، وقد خلقهم سبحانه يفرحون ويمرحون ويضحكون ويلعبون، كما خلقهم يأكلون ويشربون.

ولقد بلغ السمو الروحي ببعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مبلغًا ظنوا معه أن الجد الصارم، والتعبد الدائم لا بد أن يكون ديدنهم، وأن عليهم أن يديروا ظهورهم لكل متع الحياة، وطيبات الدنيا، فلا يلهون ولا يلعبون، بل تظل أبصارهم وأفكارهم متجهة إلى الآخرة ومعانيها بعيدة عن الحياة ولهوها.

ولنستمع إلى حديث هذا الصحابي الجليل حنظلة الأسيدي -وكان من كتّاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال يحدثنا عن نفسه:

لقيني أبو بكر وقال: كيف أنت يا حنظلة؟

قلت: نافق حنظلة‍‍‍‍.

قال: سبحان الله، ما تقول؟!

قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، عافسنا (لاعبنا) الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرًا‍‍.

قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا.

قال حنظلة: فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قلت: نافق حنظلة يا رسول الله.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟

قلت: يا رسول الله. نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، ونسينا كثيرًا‍‍.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده: إنكم لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر؛ لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة، ساعة وساعة، وكرر هذه الكلمة -ساعة وساعة- ثلاث مرات".

الرسول الإنسان

وكانت حياته صلى الله عليه وسلم مثالًا رائعًا للحياة الإنسانية المتكاملة: فهو في خلوته يصلي ويطيل الخشوع والبكاء والقيام حتى تتورم قدماه، وهو في الحق لا يبالي بأحد في جنب الله، ولكنه مع الحياة والناس بشر سوي يحب الطيبات، ويبش ويبتسم، ويداعب ويمزح، ولا يقول إلا حقًا.

كان صلى الله عليه وسلم يحب السرور وما يجلبه، ويكره الحزن وما يدفع إليه من ديون ومتاعب، ويستعيذ بالله من شره، ويقول: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن".

ومما روي في مزاحه أن امرأة عجوزًا جاءته تقول له: يا رسول الله، ادع الله لي أن يدخلني الجنة. فقال لها: يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوزًا. وانزعجت المرأة وبكت -ظنًا منها أنها لن تدخل الجنة- فلما رأى ذلك منها بين لها غرضه: إن العجوز لن تدخل الجنة عجوزًا، بل ينشئها الله خلقًا آخر، فتدخلها شابة بكرًا. وتلا عليها قول الله تعالى: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا} (الواقعة:35-37).

القلوب تمل

وكذلك كان الصحابة الطيبون الطاهرون، يمزحون ويضحكون ويلعبون ويتندرون؛ معرفة منهم بحظ النفس، وتلبية لنداء الفطرة وتمكينًا للقلوب من حقها في الراحة، واللهو البريء لتكون أقدر على مواصلة السير في طريق الجد. وإنه لطريق طويل.

قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: إن القلوب تمل كما تمل الأبدان فابتغوا لها طرائف الحكمة.

وقال: روِّحوا القلوب ساعة بعد ساعة؛ فإن القلب إذا أُكره عمي.

وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: إني لأستجم نفسي بالشيء من الباطل؛ ليكون أعون لها على الحق.

فلا بأس على المسلم أن يتفكه ويمزح بما يشرح صدره، ولا حرج عليه أن يروح نفسه ونفوس رفقائه بلهو مباح. على ألا يجعل ذلك ديدنه وخلقه في كل أوقاته، ويملأ به صباحه ومساءه، فينشغل به عن الواجبات، ويهزل في موضع الجد. ولذا قيل "أعط الكلام من المزح بقدر ما يعطي الطعام من الملح".

كما لا ينبغي للمسلم أن يجعل من أقدار الناس وأعراضهم محل مزاحه وتندره قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ} (الحجرات:11)، ولا ينبغي أن يجرّه كذلك حب إضحاك الناس إلى اتخاذ الكذب وسيلة. وقد حذَّر من ذلك الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فقال: "ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك منه القوم فيكذب ويل له، ويل له".

ألوان من اللهو الحلال:

وهناك ألوان كثيرة من اللهو، وفنون من اللعب شرعها النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين ترفيهًا عنهم، وترويحًا لهم، وهي في الوقت نفسه تهيئ نفوسهم للإقبال على العبادات والواجبات الأخرى، أكثر نشاطًا وأشد عزيمة، وهي مع ذلك في كثير منها رياضات تدربهم على معاني القوة، وتعدهم لميادين الجهاد في سبيل الله. ومن ذلك:

مسابقة العدو (الجري على الأقدام)، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتسابقون على الأقدام، والنبي صلى الله عليه وسلم يقرهم عليه، وقد رووا أن عليا كرم الله وجهه كان عداءً سريع العدو.

وكان النبي نفسه صلوات الله عليه يسابق زوجته عائشة رضي الله عنها مباسطة لها، وتطييبًا لنفسها، وتعليمًا لأصحابه.

قالت عائشة: سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته، فلبثت حتى إذا أرهقني اللحم (أي سمنت) سابقني فسبقني، فقال: "هذه بتلك"، يشير إلى المرة الأولى.

المصارعة

وقد صارع النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا معروفًا بقوته يسمى "ركانة" فصرعه النبي أكثر من مرة. وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم صارعه -وكان شديدًا- فقال: شاة بشاة. فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: عاودني في أخرى. فصرعه النبي، فقال: عاودني. فصرعه النبي الثالثة، فقال الرجل: ماذا أقول لأهلي؟ شاة أكلها الذئب، وشاة نشزت، فما أقول في الثالثة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما كنا لنجمع عليك أن نصرعك ونغرمك، خذ غنمك.

وقد استنبط الفقهاء من هذه الأحاديث النبوية مشروعية المسابقة على الأقدام، سواءا كانت بين الرجال بعضهم مع بعض، أو بينهم وبين النساء المحارم أو الزوجات، كما أخذوا منها أن المسابقة والمصارعة ونحوها لا تنافي الوقار والشرف والعلم والفضل وعلو السن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حين سابق عائشة كان فوق الخمسين من عمره.

اللعب بالسهام (التصويب)

ومن فنون اللهو المشروعة اللعب بالسهام والحراب، وكان النبي عليه السلام يمر على أصحابه في حلقات الرمي (التصويب) فيشجعهم ويقول: "ارموا وأنا معكم".

ويرى عليه السلام أن هذا الرمي ليس هواية أو لهوا فحسب، بل هو نزع من القوة التي أمر الله بإعدادها (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) وقال عليه السلام في ذلك: "ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي". وقال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالرمي فإنه من خير لهوكم"، غير أنه عليه السلام حذَّر اللاعبين من أن يتخذوا من الدواجن ونحوها غرضًا لتصويبهم وتدريبهم، وكان ذلك مما اعتاده بعض العرب في الجاهلية.

وقد رأى عبد الله بن عمر جماعة يفعلون ذلك، فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئًا فيه الروح غرضًا، وإنما لعن من فعل ذلك لما فيه من تعذيب للحيوان وإتلاف نفسه فضلًا عن إضاعة المال، ولا ينبغي أن يكون لهو الإنسان ولعبه على حساب غيره من الكائنات الحية؛ ومن أجل ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التحريش بين البهائم، وذلك بتسليط بعضها على بعض، وكان من العرب من يأتون بكبشين أو ثورين يتناطحان حتى يهلكا أو يقاربا الهلاك، وهم يتفرجون ويضحكون. قال العلماء: وجه النهي عن التحريش أنه إيلام للحيوانات، وإتعاب لها، دون فائدة إلا لمجرد العبث.

اللعب بالحراب (الشيش)

ومثل اللعب بالسهام: اللعب بالحراب (الشيش)، وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم للحبشة أن يلعبوا بها في مسجده الشريف، وأذن لزوجته عائشة أن تنظر إليهم، وهو يقول لهم: "دونكم يا بني أرفدة". وهي كنية ينادى بها أبناء الحبشة عند العرب.

ويبدو أن عمر -لطبيعته الصارمة- لم يرقه هذا اللهو، وأراد أن يمنعهم، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقد روى الصحيحان عن أبي هريرة قال: بينما الحبشة يلعبون عند النبي صلى الله عليه وسلم بحرابهم، دخل عمر فأهوى إلى الحصباء فحصبهم بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعهم يا عمر".

وإنها لسماحة كريمة من رسول الإسلام أن يقر مثل هذا اللعب في مسجده المكرم؛ ليجمع فيه بين الدين والدنيا، وليكون ملتقى المسلمين في جدهم حين يجدون، وفي لهوهم حين يلهون، على أن هذا ليس لهوًا فقط، بل هو لهو ورياضة وتدريب. وقد قال العلماء تعقيبًا على هذا الحديث: إن المسجد موضوع لأمر جماعة المسلمين، فما كان من الأعمال يجمع منفعة الدين وأهله جاز فيه، فلينظر مسلمو العصور المتأخرة كيف أقفرت مساجدهم من معاني الحياة والقوة، وبقيت في كثير من حالاتها مقرا للعاطلين؟!

وإنه لتوجيه نبوي كريم في معاملة الزوجات وترويح أنفسهن بإتاحة مثل هذا اللهو المباح. قالت عائشة زوج النبي الكريم: "لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد، حتى أكون أنا الذي أسأمه، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن، الحريصة على اللهو"، وقالت كنت ألعب بالبنات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته -وهن اللعب- وكان لي صواحب يلعبن معي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل ينقمعن (يستخفين هيبة منه) فيسربهن إلى، فيلعبن معي".

ألعاب الفروسية

قال الله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً..} (النحل:8)، وقال رسوله الكريم: "الخيل معقود بنواصيها الخير"، وقال عليه الصلاة والسلام: "ارموا واركبوا".

وقال: "كل شيء من ذكر الله فهو لهو أو سهو، إلا أربع خصال: مشي الرجل بين الغرضين (للرمي)، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، وتعليمه السباحة".

وقال عمر: "علِّموا أولادكم السباحة والرماية، ومروهم فليثبواعلى ظهور الخيل وثبًا".

وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم سبق بين الخيل وأعطى السابق. وكل هذا من النبي صلى الله عليه وسلم تشجيع على السباق وإغراء به؛ لأنه كما قلنا -لهو ورياضة وتدريب، وقيل لأنس: أكنتم تراهنون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراهن؟ قال: نعم، والله لقد راهن على فرس يقال له سبحة، فسبق الناس، فهش لذلك وأعجبه".

والرهان المباح أن يكون الجُعل الذي يُبذَل من غير المتسابقين أو من أحدهما فقط، فأما إذا بُذَل كل منهما جعلًا على أن مَن سبق منهما أخذ الجعلين معًا فهو القمار المنهي عنه. وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم هذا النوع من الخيل الذي يعد للقمار "فرس الشيطان" وجعل ثمنها وزرًا، وعلفها وزرًا، وركوبها وزرًا.

وقال: الخيل ثلاثة؛ فرس للرحمن، وفرس للإنسان، وفرس للشيطان. فأما فرس الرحمن فالذي يرتبط في سبيل الله، فعلفه وروثه وبوله، وذكر ما شاء الله (يعني أن كل ذلك له الحسنات)، وأما فرس الشيطان فالذي يُقامر أو يراهن عليه، وأما فرس الإنسان فالذي يرتبطه الإنسان يلتمس بطنها (أي للنتاج) فهي ستر من فقر.

الصيد

ومن اللهو النافع الذي أقره الإسلام الصيد، وهو في الواقع متعة ورياضة واكتساب، سواء أكان عن طريق الآلة كالنبال والرماح، أو غير طريق الجوارح كالكلاب والصقور. وقد سبق أن تحدثنا عن الاشتراطات والآداب التي طلبها الإسلام فيه.

ولم يمنع الإسلام الصيد إلا في حالتين؛ حالة المحرم بالحج والعمرة؛ فإنه في مرحلة سلام كامل، لا يقتل فيها ولا يسفك دما كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} (المائدة:95)، {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (المائدة:96).

والحالة الثانية: حالة الحرم في مكة فقد جعلها الإسلام منطقة سلام وأمن لكل كائن حي ينتقل في أرجائها، أو يطير في سمائها، أو ينبت في أرضها فهي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يصاد صيدها، ولا يقطع شجرها، ولا يختلى خلاها.

اللعب بالنرد (الطاولة)

وكل لعب فيه قمار فهو حرام. والقمار كل ما لا يخلو اللاعب فيه من ربح أو خسارة. وهو الميسر الذي قرنه القرآن بالخمر والأنصاب والأزلام، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قال لصاحبه تعال أقامرك فليتصدق". يعني أن مجرد الدعوة إلى المقامرة ذنب يوجب الكفارة بالتصدق، ومن ذلك اللعب بالنرد (الزهر) إذا اقترن بقمار؛ فهو حرام اتفاقًا، وإن لم يقترن به فقال من العلماء: يحرم.

وقال بعضهم: يُكره ولا يُحرَّم. وحجة المحرمين ما رواه بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه"، وما رواه أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله".

والحديثان صريحان عامان في كل لاعب، قامر أم لم يقامر. قال الشوكاني: روي أنه رخص في النرد ابن مغفل وابن المسيب على غير قمار ويبدو أنهما حملا الأحاديث على من لعب بقمار.

اللعب بالشطرنج

ومن ألوان اللهو المعروفة الشطرنج، وقد اختلف الفقهاء في حكمه بين الإباحة والكراهة والتحريم، واحتج المحرمون بأحاديث رووها عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن نقاد الحديث وخبراءه ردوها وأبطلوها، وبيَّنوا أن الشطرنج لم يظهر إلا في زمن الصحابة فكل ما ورد فيه من أحاديث باطل.

أما الصحابة رضي الله عنهم فاختلفوا في شأنه. قال ابن عمر: هو شر من النرد، وقال علي: هو من الميسر (ولعله يقصد: إذا اختلط به القمار).

وروي عن بعضهم كراهيته فحسب، كما روي عن بعض الصحابة والتابعين أنهم أباحوه. من هؤلاء ابن عباس، وأبو هريرة وابن سيرين، وهشام بن عروة، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير.

وهذا الذي ذهب إليه هؤلاء الأعلام هو الذي نراه، فالأصل -كما علمنا- الإباحة، ولم يجيء نص على تحريمه. على أن فيه -فوق اللهو والتسلية- رياضة للذهن، وتدريبًا للفكر، وهو لذلك يخالف النرد؛ ولذلك قالوا: إن المعول في النرد على الحظ، فأشبه بالأزلام، والمعول في الشطرنج على الحذق والتدبير، فأشبه المسابقة بالسهام.

وقد اشترط من أباحه شروطًا ثلاثة: ألا تؤخر بسببه صلاة عن وقتها، فإن أكبر خطورته في سرقة الأوقات، ألا يخالطه قمار، أن يحفظ اللاعب لسانه حال اللعب في الفحش والخنا ورديء الكلام. فإذا فرَّط في هذه الثلاثة أو بعضها اتجه القول إلى التحريم.

الغناء والموسيقى

ومن اللهو الذي تستريح إليه النفوس، وتطرب له القلوب، وتنعم به الآذان الغناء، وقد أباحه الإسلام ما لم يشتمل على فحش أو خنا أو تحريض على إثم، ولا بأس أن تصاحبه الموسيقى غير المثيرة.

ويستحب في المناسبات السارة، إشاعة للسرور، وترويحًا للنفوس وذلك كأيام العيد والعرس وقدوم الغائب، وفي وقت الوليمة، والعقيقة، وعند ولادة المولود.

فعن عائشة رضي الله عنها أنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عائشة "ما كان معهم من لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو‍". وقال ابن عباس: زوجت عائشة ذات قرابة لها من الأنصار، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أهديتم الفتاة؟ قالوا: نعم. قال: أرسلتم معها من يغني؟ قالت: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الأنصار قوم فيهم غزل، فلو بعثتم معها من يقول: أتيناكم أتيناكم، فحيانا وحياكم"؟

وعن عائشة أن أبا بكر رضي الله عنه دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى (في عيد الأضحى) تغنيان تضربان، والنبي صلى الله عليه وسلم متغش بثوبه، فانتهرهما أبو بكر، فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن وجهه، وقال: "دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد".

وقد ذكر الإمام الغزالي في كتاب "الإحياء" أحاديث غناء الجاريتين، ولعب الحبشة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وتشجيع النبي لهم بقوله: دونكم يا بني أرفدة. وقول النبي لعائشة تشتهين أن تنظري، ووقوفه معها حتى تمل هي وتسأم، ولعبها بالبنات مع صواحبها. ثم قال: فهذه الأحاديث كلها في "الصحيحين"، وهي نص صريح في أن الغناء واللعب ليس بحرام، وفيها دلالة على أنواع من الرخص:

الأول: اللعب، ولا يخفى عادة الحبشة في الرقص واللعب.

والثاني: فعل ذلك في المسجد.

والثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: دونكم يا بني أرفدة، وهذا أمر باللعب والتماس له فكيف يقدر كونه حرامًا؟

والرابع: منعه لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما عن الإنكار والتعليل والتغيير وتعليله بأنه يوم عيد أي هو وقت سرور، وهذا من أسباب السرور.

والخامس: وقوفه طويلًا في مشاهدة ذلك وسماعه لموافقة عائشة رضي الله عنها، وفيه دليل على أن حسن الخلق في تطييب قلوب النساء والصبيان بمشاهدة اللعب أحسن من خشونة الزهد والتقشف في الامتناع والمنع منه.

والسادس: قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة ابتداء: أتشتهين أن تنظري؟

والسابع: الرخصة في الغناء، والضرب بالدف من الجاريتين.. إلخ ما قاله الغزالي في كتاب السماع.

وقد روي عن كثير من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أنهم سمعوا الغناء ولم يروا بسماعه بأسًا، أما ما ورد فيه من أحاديث نبوية فكلها مثخنة بالجراح لم يسلم منها حديث من طعن عند فقهاء الحديث وعلمائه، قال القاضي أبو بكر بن العربي: لم يصح في تحريم الغناء شيء. وقال ابن حزم: كل ما روي فيها باطل موضوع.

وقد اقترن الغناء والموسيقى كثيرًا بالترف ومجالس الخمر والسهر الحرام مما جعل كثيرًا من العلماء يُحرِّمونه أو يكرهونه، وقال بعضهم: إن الغناء من "لهو الحديث" المذكور في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (لقمان:6).

وقال ابن حزم: إن الآية ذكرت صفة من فعلها كان كافرًا بلا خلاف إذا اتخذ سبيل الله هزوًا، ولو أنه اشترى مصحفًا ليضل به عن سبيل الله ويتخذه هزوًا لكان كافرًا، فهذا هو الذي ذم الله عز وجل، وما ذم سبحانه قط من اشترى لهو الحديث ليتلهى به ويروح نفسه لا ليضل عن سبيل الله.

ورد ابن حزم أيضًا على الذين قالوا إن الغناء ليس من الحق فهو إذا من الضلال قال تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ} (يونس:32)، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل أمرىء ما نوى" فمن نوى باستماع الغناء عونًا على معصية الله فهو فاسق -وكذلك كل شيء غير الغناء- ومن نوى ترويح نفسه ليقوى بذلك على طاعة الله عز وجل، وينشط نفسه بذلك على البر فهو مطيع محسن، وفعله هذا من الحق. ومن لم ينو طاعة ولا معصية فهو لغو معفو عنه، كخروج الإنسان إلى بستانه متنزها، وقعوده على باب داره متفرجًا، وصبغه ثوبه لازورديًا أو أخضر أو غير ذلك".

على أن هناك قيودًا لا بد أن نراعيها في أمر الغناء:

فلا بد أن يكون موضوع الغناء مما لا يخالف أدب الإسلام وتعاليمه، فإذا كانت هناك أغنية تمجد الخمر أو تدعو إلى شربها مثلًا فإن أداءها حرام، والاستماع إليها حرام وهكذا ما شابه ذلك، وربما كان الموضوع غير مناف لتوجيه الإسلام، ولكن طريقة أداء المغني له تنقله من دائرة الحل إلى دائرة الحرمة، وذلك بالتكسر والتميع وتعمد الإثارة للغرائز، والإغراء بالفتن والشهوات.

كما أن الدين يحارب الغلو والإسراف في كل شيء حتى في العبادة، فما بالك بالإسراف باللهو، وشغل الوقت به، والوقت هو الحياة؟! لا شك أن الإسراف في المباحات يأكل وقت الواجبات وقد قيل بحق: "ما رأيت إسرافًا إلا وبجانبه حق مضيع".

تبقى هناك أشياء يكون كل مستمع فيها مفتي نفسه، فإذا كان الغناء أو لون خاص منه يستثير غريزته، ويغريه بالفتنة، ويطغى فيه الجانب الحيواني على الجانب الروحاني؛ فعليه أن يتجنبه حينئذ، ويسد الباب الذي تهب منه رياح الفتنة على قلبه ودينه وخلقه، فيستريح ويريح.

ومن المتفق عليه أن الغناء يحرم إذا اقترن بمحرمات أخرى كأن يكون في مجلس شرب أو تخالطه خلاعة أو فجور، فهذا هو الذي أنذر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهله وسامعيه بالعذاب الشديد حين قال: "ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير"، وليس بلازم أن يكون مسخ هؤلاء مسخًا للشكل والصورة، وإنما هو مسخ النفس والروح فيحملون في إرهاب الإنسان نفس القرد وروح الخنزير.

القمار قرين الخمر

والإسلام الذي أباح للمسلم ألوانًا من اللهو واللعب حرَّم كل لعب يخالطه قمار، وهو ما لا يخلو للاعب فيه من ربح أو خسارة. وقد ذكرنا قبل ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "مَن قال لصاحبه تعال أقامرك فليتصدق".

ولا يحل لمسلم أن يجعل من لعب القمار (الميسر) وسيلته للهو والتسلية تمضية أوقات الفراغ، كما لا يحل له أن يتخذ منه وسيلة لاكتساب المال، بحال من الأحوال.

وللإسلام من وراء هذا التحريم الجازم حكم بالغة، وأهداف جليلة:

أنه يريد من المسلم أن يتبع سنن الله في اكتساب المال، وأن يطلب النتائج من مقدماتها، ويأتي البيوت من أبوابها، وينتظر المسببات من أسبابها. والقمار -ومنه اليانصيب- يجعل الإنسان يعتمد على الحظ والصدفة والأماني الفارغة، لا على العمل والجد واحترام الأسباب التي وضعها الله، وأمر باتخاذها.

والإسلام يجعل مال الإنسان حُرمة فلا يجوز أخذه منه؛ إلا عن طريق مبادلة مشروعة أو عن طيب نفس منه بهبة أو صدقة. أما أخذه بالقمار، فهو من أكل المال بالباطل؛ ولا عجب بعد هذا، أن يورث العداوة والبغضاء بين اللاعبين المتقامرين، وإن أظهروا بألسنتهم أنهم راضون، فإنهم دائما بين غالب ومغلوب، وغابن ومغبون. والمغلوب إذا سكت، سكت على غيظ وحنق، غيظ من خاب أمله، وحنق من خسرت صفقته، وإن خاصم خاصم فيما التزمه بنفسه، واقتحم فيه بعضده.

والخيبة تدفع المغلوب إلى المعاودة عسى أن يعوض في الثانية ما خسر في الأولى. والغالب تدفعه لذة الغلبة إلى التكرار، ويدعوه قليله إلى كثيره، ولا يدعه حرصه ليقع، وعما قليل تكون الدائرة عليه، وينتقل من نشوة الظفر إلى غم الإخفاق. وهكذا دواليك مما يربط كليهما بمنضدة اللعب فلا يكادان يفارقانها. وهذا هو السر في كارثة الإدمان في لاعبي الميسر؛ من أجل ذلك كانت هذه الهواية خطرًا شديدًا على المجتمع، كما هي خطر على الفرد؛ إنها هواية تلتهم الوقت والجهد، وتجعل من المقامرين أناسًا عاطلين، يأخذون من الحياة ولا يعطون، ويستهلكون ولا ينتجون. والمقامر مشغول دائما بقماره عن واجبه نحو ربه، وواجبه نحو أسرته، وواجبه نحو أمته.

ولا يستبعد على من عشق "المائدة الخضراء" -كما يسمونها- أن يبيع من أجلها دينه وعرضه ووطنه، فإن صداقة هذه المائدة تنتزعه من الصداقة لأي شيء، أو أي معنى آخر، كما أنها تغرس فيه حب المقامرة بكل شيء. حتى بشرفه وعقيدته وقومه، في سبيل كسب موهوم.

وما أصدق القرآن وأروعه حين جمع بين الخمر والميسر في آياته وأحكامه، فإن أضرارهما على الفرد والأسرة والوطن والأخلاق متشابهة، وما أشبه مدمن القمار بمدمن الخمر، بل قلما يوجد أحدهما دون الآخر. ما أصدق القرآن حين علمنا أنهما من عمل الشيطان، وقرنهما بالأنصاب والأزلام، وجعلهما رجسا واجب الاجتناب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} (المائدة:90-91).

اليانصيب ضرب من القمار

وما يسمى بـ "اليانصيب" هو لون من ألوان القمار، ولا ينبغي التساهل فيه والترخيص به باسم "الجمعيات الخيرية" و"الأغراض الإنسانية". إن الذين يستبيحون اليانصيب لهذا، كالذين يجمعون التبرعات لمثل تلك الأغراض بالرقص الحرام، و"الفن" الحرام. ونقول لهؤلاء وهؤلاء: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا".

والذين يلجؤون إلى هذا الأساليب يفترضون في المجتمع أن قد ماتت فيه نوازع الخير، وبواعث الرحمة، ومعاني البر، ولا سبيل إلى جمع المال إلا بالقمار أو اللهو المحظور. والإسلام لا يفترض هذا في مجتمعه، بل يؤمن بجانب الخير في الإنسان، فلا يتخذ إلا الوسيلة الطاهرة للغاية الشريفة، تلك الوسيلة هي الدعوة إلى البر، واستثارة المعاني الإنسانية، ودواعي الإيمان بالله والآخرة.

دخول السينما

ويتساءل كثير من المسلمين عن موقف الإسلام من دور الخيالة (السينما) والمسرح وما شابهها. وهل يحل للمسلم ارتيادها أم يحرم عليه؟ ولا شك أن "السينما" وما ماثلها أداة هامة من أدوات التوجيه والترفيه، وشأنها شأن كل أداة فهي إما أن تستعمل في الخير أو تستعمل في الشر، فهي بذاتها لا بأس بها ولا شيء فيها، والحكم في شأنها يكون بحسب ما تؤديه وتقوم به.

وهكذا نرى في السينما: هي حلال طيب، بل قد تستوجب وتطلب إذا توفرت لها الشروط الآتية:

أولًا: أن تتنزه موضوعاتها التي تعرض فيها عن المجون والفسق وكل ما ينافي عقائد الإسلام وشرائعه وآدابه، فأما الروايات التي تثير الغرائز الدنيا أو تحرض على الإثم أو تغري بالجريمة أو تدعو لأفكار منحرفة، أو تروج لعقائد باطلة، إلى آخر ما نعرف؛ فهي حرام لا يحل للمسلم أن يشاهدها أو يشجعها.

ثانيًا: ألا تشغله عن واجب ديني أو دنيوي. وفي طليعة الواجبات الصلوات الخمس التي فرضها الله كل يوم على المسلم، فلا يجوز للمسلم أن يضيع صلاة مكتوبة -كصلاة المغرب- من أجل رواية يشاهدها. قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} (4-5)،  وفُسِّر السهو عنها بتأخيرها حتى يفوت وقتها. وقد جعل القرآن من جملة أسباب تحريم الخمر والميسر أنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة.

ثالثًا: أن يتجنب مرتادها الملاصقة والاختلاط المثير بين الرجال والنساء الأجنبيات منهم؛ منعًا للفتنة، ودرءا للشبهة، ولا سيما أن المشاهدة لا تتم إلا تحت ستار الظلام وقد مر بنا الحديث: "لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له".

.....

- المصدر: "الحلال والحرام في الإسلام" لفضيلة الشيخ.