بقلم: ياسين أقطاي

لا شك أن اعتقال زعيم حركة النهضة في تونس راشد الغنوشي البالغ من العمر 82 عامًا، الذي تميز بسياساته المعتدلة والعقلانية والتنافسية، ليس حدثًا يمكن تجاهله ببساطة، وفي هذا الصدد يمكننا القول بأنه حدثٌ هَيَّأ لنا فرصة كبيرة لتشخيص الوضع الحالي والمشاكل والعلل المتغلغلة في العالم الإسلامي.

فالغنوشي سياسي تونسي، لكنه ليس تونسيًا فقط، وليس مجرد سياسي فحسب، بل إنه مفكر وفقيه سياسي لديه رؤى مستقبلية ذات تأثير واسع -إذا تمكن من إيصالها- ليس في العالم الإسلامي فحسب، بل وحتى للعالم المعاصر بأسره. إنه فيلسوف، بل إنه سياسي حكيم بالمعنى الحقيقي للكلمة تشرَّب الفكر والتاريخ من الأرض التي نشأ فيها ابن خلدون.

إن عمقه الفكري وأفقه الواسع وشخصيته السياسية وإنسانيته، ورؤيته القيادية التي تظهر للوهلة الأولى بجلاء في كتاباته وأحاديثه إلى جانب أسلوبه السياسي الذي يتبعه في ممارساته في الواقع، وطريقه الذي يسير فيه على أسس فكرية وفقهية رصينة تشكل اجتهادًا ومنهجًا فقهيًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وهو بالطبع مثل الاجتهادات الفقهية كلها قد يصيب وقد يخطئ، فهذه طبيعة بشرية لا يمكن التغاضي عنها.

فكرة جديرة بالبحث

والغنوشي فكرة جديرة بالبحث في مقوماتها ومنطلقاتها وأهدافها، ولذلك من المفيد للباحثين عن الأفكار أو المستويات الفكرية المتميزة في العالم الإسلامي أن يجتهدوا في قراءة فكر الغنوشي في المقام الأول، فنحن إذا أطلقنا عليه لقب مثقف فهو بالطبع ليس مثقفًا كمثقفي الأبراج العاجية الذين يعيشون في خيالاتهم بعيدًا عن الواقع، فالفكر عند الغنوشي هو ثقافة تحيا وتنمو في الميدان تتواصل مع الناس ومعاناتهم والوقوف على احتياجاتهم ورفع الأعباء عن كواهلهم ومواجهة الحقيقة التي يعيشونها باستمرار، وذلك كله بالطبع في إطار ما يؤمن به دون تنازلات أو خروج عن المنهج، ولهذا السبب فإن الغنوشي لم يمضِ في هذا الطريق بمفرده، بل كان لديه دائمًا رفاق درب سار معهم في السراء والضراء، وكان لهم خير صديق في تضامن وتكاتف.

ورغم أننا نذكر ذلك هنا فإن الحقيقة أن الأمر لم يكن سهلًا على الإطلاق، فالاضطهاد الذي تعرض له مع رفقائه كان قمعًا وإيذاءً لم يقف عنده فحسب، بل أصاب العالم الإسلامي بأسره، لأنه اضطهاد قصد تمييع الفكرة الإسلامية حينما خاض نضالًا من أجل التحرير الحقيقي من التبعية للاستعمار الذي تخلى عن الاحتلال العسكري المباشر وتحوّل إلى الاستعمار غير المباشر، فترك وكلاء أكثر نفاقًا واستبدادًا وديكتاتورية في كل شبر من العالم الإسلامي.

في هذا النضال الذي خاضه الغنوشي ضد هؤلاء لم يتحول أبدًا إلى العنف، بل نادى بالديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية والكرامة الإنسانية، وكانت نتيجة ذلك أن تم حبس حريته وتم إغلاق حزبه، وأمضى مع جميع أصدقائه فترات طويلة من حياتهم بين السجن والمَنفى.

ولما بدأت الثورات العربية وكانت شرارتها الأولى من تونس في تعبير مباشر عن الغضب والثورة ضد الديكتاتورية الاستعمارية التي عانت منها الشعوب العربية قرنًا من الزمان بشكل مباشر أو غير مباشر، عاد الغنوشي زعيمًا لحركة النهضة مع رفاقه إلى تونس، وأصبح أحد أهم الجهات الفاعلة في عملية البناء ما بعد الثورة، لكنه في الوقت نفسه اتخذ موقفًا مختلفًا ضد انحدار الثورة وتحولها إلى أداة انتقامية من المنتمين للحقبة السابقة.

شعار الغنوشي

ورفع الغنوشي شعار تونس لكل التونسيين دون استبعاد أي فصيل أو أشخاص، وبذل جهودًا كبيرة لإعداد دستور يقوم على حقوق الإنسان والديمقراطية، ويمكنه أن يشمل تونس بكل طوائفها الدينية والعلمانية والاشتراكية والمدنية والعمالية. إن أداءه السياسي في هذه الأثناء يمثل تجربة مهمة تستحق بسهولة أن توصف بأنها “ديمقراطية تداولية”.

إذ رأى العالم كله أن الغنوشي لديه خطاب قوي ومتماسك للغاية، فهو عندما نادى بالديمقراطية لم يذكر أبدًا أنها أداة يلجأ إليها حتى يحصل من ورائها على شيء آخر، كما أنه لم يذكر الشورى الإسلامية كونها ممارسة سياسية غريبة عن العصر أو بالمعنى الكلاسيكي المغلوط في التاريخ.

فإن الشورى في تلك الفترة كما هي لدى كل مسلم قد أفسحت المجال لنفسها قيمة ومبدأ، والواقع الذي لا ينكره أحد أن الممارسات السياسية مع مرور الوقت يمكن أن تكون مختلفة جدًا، لكن الغنوشي حاول أيضًا إقناع الإسلاميين في تونس بأن نموذج الشورى يمكن أن يتحقق في شكل ديمقراطي.

لا يَحمِلُ الحِقدَ مَن تَعلو بِهِ الرُتَبُ *** وَلا يَنالُ العُلا مَن طَبعُهُ الغَضَبُ

ففي الانتخابات الأولى التي أجريت بعد صياغة الدستور التونسي الجديد، وعلى الرغم من أن الغنوشي يمكن انتخابه بسهولة رئيسًا للوزراء أو حتى رئيسًا لتونس، فإنه تراجع عن ذلك كله موضحًا أنه ليس لديه اهتمام بالمنصب، وأنه يبذل كل شيء من أجل تونس أفضل، وقد تمت المقارنة كثيرًا بين هذا الموقف التوفيق الذي سلكه الغنوشي كونه مثالًا إيجابيًا وبين السياسات التي مضى فيها حزب الحرية والعدالة التابع لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، الذي فضَّل تقديم مرشح رئاسي رغم تشابه الوضع في مصر بما يحدث في تونس، وأظهرت المقارنة أنه ربما لم تكن الأمور في مصر لتصل إلى مرحلة الانقلاب لو لم يكن مرسي مرشحًا للرئاسة.

ائتلاف واسع

في الحقيقة كان الغنوشي طيّب النفس بشكل غير معتاد في الصراع السياسي، في مواجهة أبواق وسائل الإعلام التي تدعمها فرنسا وفلول النظام القديم لتعمل ضد الغنوشي، وكانوا يتهمونه بالفعل بأنه أصبح ديكتاتورًا حتى قبل توليه أي منصب. تمامًا مثلما حدث مع مرسي الذي اتُّهم منذ الأشهر الأولى لانتخابه بالديكتاتورية وعدم مشاركة السلطة، ومع الأسف فإن إدراك حقيقة مثل تلك الاتهامات وما تخفيه وراءها من نوازع ديكتاتورية يأتي غالبًا بعد فوات الأوان.

وقد فضَّل الغنوشي وحزب النهضة تشكيل ائتلاف واسع على الرغم من أنها لم تكن بحاجة إليه، وقدمت خلال ذلك التنازلات قدر الإمكان، والغنوشي الزعيم الحكيم لحزب النهضة على الرغم من أنه كان من الممكن أن يصبح رئيسًا بسهولة، لكنه تخلى عن ذلك ودعم منصف المرزوقي الناشط في مجال حقوق الإنسان رئيسًا، وبقي الغنوشي نفسه بعيدًا عن الحكومة، لكن هذا البُعد لم يمنعه من التأثير في تشكيل الحكومة وتصرفاتها، وعلى الرغم من أنه لم يشغل أي منصب رسمي فإنه ظل حاسمًا في المناقشات جميعها حول تشكيل الحكومات التونسية أو حلها وانتخاب الرئيس وصياغة الدستور.

وبينما كانت الثورات المضادة والانقلابات تحدث تِباعًا في البلدان الأخرى التي شهدت ثورات الربيع العربي، ظلت تونس مصدرًا للإزعاج التام لأنها النموذج الأول لتلك الثورات العربية. حيث واجه الغنوشي برجاحة عقله وحكمة مواقفه محاولات الانقلاب العديدة التي دعمتها هذه البلدان نفسها، وكان رده عليهم جميعًا بليغًا وصائبًا، إذ قال: “لقد صدَّرنا الثورة إليكم، وليس لدينا أي نية لاستيراد الانقلابات منكم”.

ولما كانت الأمور لا تسير على وتيرة واحدة، فقد شهدت الآونة الأخيرة تَسلُّلَ الانقلاب عبر أبواب الديمقراطية، واستولى على مقاليد الديمقراطية والثورة التونسية.

ولقد كان من الطبيعي أن تستهدف هذه المحاولة الانقلابية الأخيرة الغنوشي رمز الثورة التونسية، لكن بالطبع ليس من الطبيعي على الإطلاق أن تتعامل تونس أو أي بلد عاقل مع قامة كبيرة كالغنوشي بهذه الطريقة الفجة.

واحد من أعظم القيم

فالغنوشي هو واحد من أعظم القيم التي يمكن لأي بلد أن يستفيد منها وينميها، فهو صاحب أفكار يمكن مناقشتها، أفكار يمكنها أن تعمق المستوى الفكري والروحي والسياسي والأخلاقي للبلد بأسره وتوسع آفاقه. أفكار مستوحاة من الكون ومجربة في الميدان وتواجه الحقائق وتزداد فعالية بالحوار مع الناس.

وفي ختام هذا الحديث عن الغنوشي القامة العالمية أُذَكِّرُ الجميع بأن من يقبل مثل هذه المعاملة للقامات الفكرية والحكماء وتتسامح معها وتلتزم الصمت سواء أكانت دولة أم دولًا عدة لا سيما دول العالم الإسلامي، لا شك ستكون على موعد مع كارثة كبيرة أخرى.

ولتصل أصداء تلك الكلمة إلى الدول الإسلامية كلها التي تبقي علماءها وحكماءها خلف قضبان السجون. لعل تلك الدول وأنظمتها الديكتاتورية ترجع إلى جادة الطريق قبل فوات الأوان..

تصفو الحياة لجاهل أو غافل *** عما مضى فيها وما يتوقع

ولِمَن يغالط في الحقائق نفسه *** ويسومها طلب المحال فتطمع

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ياسين أقطاي؛ أكاديمي، وسياسي، وكاتب تركي مستشار الرئيس التركي رجب طيب إردوغان