أمينة عبد الرحمن

كثيرون ينظرون إلى التربية على أنها مجرد توجيهات من الأب والأم إلى الأبناء، وأن دور المُربِي هو مجرد إلقاء نصائح للأبناء وتعليمهم كيف يتصرفون في المواقف المختلفة بشكل صحيح، نعم هذا جزء مهم من التربية، لكنه لكي يؤدى بشكل صحيح لا بد أن يأتي بعد "إحسان الاستماع" للأبناء لفهم ما يحتاجونه بشكل صحيح، وبالتالي اختيار النصائح والكلمات المناسبة لهم.

استمع جيدا قبل أن تتحدث 

كن مستمعا أكثر من كونك متكلما، اجعل أبناءك يتحدثون على قاعدة "تكلم حتى أراك"، شاركهم اهتماماتهم، وانزل لمستوى تفكيرهم، واهتمامات من هم في سنهم.

الهدف من الاستماع لهم هو التعرف عليهم، نعم التعرف الحقيقي على شخصياتهم وأفكارهم ونفسياتهم وأحلامهم وآلامهم، وطريقة تفكيرهم، كيف ينظرون للحياة، كيف ينظرون لأنفسهم، كيف يتوقعون مستقبلهم، ما هي نظرتهم لأنفسهم وكيف يرون نظرة الآخرين لهم؟ تعرف مدى قدرتهم ومدى ضعفهم على مواجهة أي موقف صعب، أو حتى مواجهة كلمة قاسية أو مؤذية للمشاعر، كيف سيتصرفون؟ من يحبون من أصدقائهم؟ ولماذا هؤلاء بالتحديد؟ ومن يكرهون ولماذا؟ 

دعنا نعترف بشجاعة بأنه ربما كثير من الناس لم يتعرفوا على حقيقة شخصيات أولادهم وحقيقة ما يدور بأفكارهم، حتى وإن زعموا أنهم فعلوا ذلك في وقت ما، فربما يحدث تغيير في زمن زادت فيه وتيرة التغيير على كل المستويات.

كل هذا لن نتوصل إلى حقيقته إلا بعد أن نترك مجال الكلام لهم، بطبيعتهم وعلى سجيتهم، نتقبل اخطاءهم ونضحك على كلماتهم الجديدة وتعبيراتهم الفريدة، نفهم أفكارهم ونظراتهم للحياة، ونجعلهم يعبرون عن كل ذلك بدون خوف أو قلق من أي شيء، أين سيجدون الأمان لإخراج كلماتهم والتعبير عما بداخلهم سوى في البيت وأمام الأب والأم؟

لذلك فإن كثير من الناس لا يعرفون أبعاد شخصيات أبنائهم بشكل دقيق إلا إذا منحوهم الوقت والاهتمام والاستماع لهم بتركيز والإنصات لهم بعناية، لذلك لا تقاطعهم وهم يتحدثون، حتى لو تكلموا بكلام تافه أو حتى خاطئ دعهم يتحدثون ويخطؤون أولا لكي نستطيع أن نصحح لهم أخطائهم بشكل صحيح.

استمع إليهم كثيرا، لا تقاطعهم، اقرأ عن فن الاستماع وفن استخراج الكلمات من داخلهم. هم أصلا يحبون الكلام بطبيعتهم ويجدون راحتهم في ذلك، فالأمر سهل وميسور بإذن الله.

المشكلة تكمن في أنه إذا لم يجد الابن أو البنت من يستمع لشكاويهم واهتماماتهم في البيت، ذهبوا وتحدثوا بذلك خارج البيت سواء لأصدقاء أو أقارب أو جيران، ومن هنا تحدث مشاكل أكبر يمكن منعها من الحدوث أصلا بمجرد الاستماع الجيد للأبناء.

لذلك هذه نصيحة للأب: اجعل أولادك يتحدثون معك كما يتحدثون مع أمهم، والأفضل ان تجعلهم يتحدثون معك كما يتحدثون مع أصدقائهم، بالطبع لن يحدث هذا بشكل تام، وسيحتاج ذلك إلى أوقات طويلة ليتحقق بإذن الله، ولكن المقصود ان تعمل على إزالة الحواجز بينكم، وألا يكون هناك مبررا عندهم لكتمان شيء أو الخوف من التعبير عن مشاعرهم وأحلامهم ومخاوفهم بصدق وشفافية.

اضحك على أخطائهم وهفواتهم الصغيرة، لتعطيهم الأمان على أن يحكوا لك على ما هو أكبر من ذلك، ولتشجعهم على الحديث معك عن حقيقة ما يدور بداخلهم بكل أريحية.

دعهم يتكلمون بحرية ويشعرون أنهم ملوك وأمراء في مملكتهم الصغيرة (البيت) هم أصحاب الكلام وأصحاب القرار، البيت بيتهم وهم أمراؤه يتصرفون فيه بكل حرية وأريحية، (كل ذلك بالتوجيه البعيد وغير المباشر من المُربِي).

ستحصد من إحسان الاستماع إليهم ثمرات كثيرة، من بينها أنك ستجعلهم هم من يتبنون الأفكار الجيدة والاقتراحات المفيدة، ويشعرون أن الفكرة فكرتهم، وأنهم هم أصحابها، فينفذونها بشغف ويتفاعلون معها ويعملون بها في حضورك وغيابك، لأنها فكرتهم هم، هم من بلوروها بداخلهم وتحدثوا بها بألسنتهم وأقنعوك بها. إنها فكرتهم هم، قبل أن تكون فكرتك أنت. وهذا هو عين النجاح في التربية.

يبقى دورك في الاستماع، لتحقيق الفقرة السابقة، هو أن توجه كلامهم، وأن تستخرج ما بداخلهم عبر توجيه أسئلة ذكية مباشرة وغير مباشرة، تضحك وتتفاعل مع كلماتهم، تنزل لمستواهم، تصغر إلى سنهم، تلعب معهم (تخيل سلوك النبي مع الحسن والحسين!)، تشاركهم اهتماماتهم حتى ولو كنت ترى أنها صغيرة أو غريبة أو تافهة، شاركهم هذه الاهتمامات بجد كي تخرج حقيقة ما بداخلهم من كلمات وأفكار تستمع إليها.. 

بعد الاستماع يأتي دور الكلام المناسب

الهدف من كل ما سبق هو أننا نحن من سيتحدث في المرحلة التالية، في الوقت مناسب، (كان النبي يتخول أصحابه بالموعظة مخافة السآمة عليهم)، ولكن الحديث حينئذ سيكون موجها نحو الهدف ونحو علاج أي نقص أو خلل تعرفت عليه من خلال كلامهم الصادق وتعبيرهم الشفاف عما بداخلهم.

هم لا يحتاجون إلى كثير كلام ومعلومات وأوامر ونواهي، ربما هم يعرفون أكثر منا بكثير حين كنا في سنهم. هم لا يحتاجون لمزيد علم بقدر حاجتهم لمزيد حب واحتواء وشعور بالأمن والاستماع إليهم. 

الهدف من كل ذلك أن نصل إلى مرحلة جديدة، نصل إلى أنهم حين يشتكون أو يخافون أو يحلمون أو يخطؤون يأتون إليك أنت ويحكون لك بكل سلاسة بدون خوف من لوم أو تبكيت أو عقاب أو سخرية أو صوت عالي، مهما كان الموضوع، فمهما كانت المشكلة هم يعلمون أنك ستستمع إليهم بدون عقاب، وأن ما سيحكون لك عنه سيكون عندك الحل الرفيق اللطيف له، برفق وهدوء وإقناع للعقل وطمأنينة للقلب.

نتعلم ذلك من النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أفضل معلم، فالذي يمكن أن نستفيده هنا من الشاب الذي استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الزنا هو أنه إن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم مستمعا جيدا لما تحدث إليه الشاب، ولو علم ذلك الشاب أن النبي سيعنفه أو سيحرجه أو سيسخر منه لما تحدث إليه.

النبي صلى الله عليه وسلم، قد فتح بابه للاستماع لكل إنسان، ولكل ما يخطر على بال الناس من أفكار أو رغبات أو مطالبات، ولكل ما يطرأ على حياتهم من مشكلات أو صعوبات أو حاجات، بسبب قدرته على التعامل الجيد مع كل هذه المواقف والأسئلة المفاجأة وربما الصادمة بالحوار والاقناع، وأن يقوم كل إنسان من عنده وقد اطمأن قلبه واقتنع عقله بالفكرة التي قالها النبي الحكيم له، صلى الله على محمد صلى الله عليه وسلم. 

وحين صار ذلك الأمر شائعا عن النبي صلى الله عليه وسلم فتح الباب أمام الصغير والكبير لأن يحاوره ويبث إليه شكواه ويلقي عليه سؤاله بلاح حرج مهما كان موضوعه. وحين يصير ذلك شائعا عنك في البيت سيحكي الجميع لك لتعرف حقيقة ما بداخلهم.

الموضوع محتاج لفن التعامل مع النفوس، وهذا موضوع يحتاج أولا عون وتوفيق من الله، ودعاؤه والاستغاثة به، ومحتاج أيضا أن نتدرب طوال حياتنا على التعامل برحمة ولين وعطف وتيسير وإبعاد للحرج والمشقة، وعدم ممارسة أي نوع من الضغوط على صغارنا وأحبابنا، يقول الله تعالى عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك).. استمع لبقية الآية: (فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر).

البيت هو واحة الأمان، لا بد أن يشعر فيه الجميع بالأمان التام، بنسبة 100%، أمان على ردود الأفعال على أخطائهم، أنهم سيجدون التفهم والتعاطف ثم بعد ذلك يأتي التوجيه والإرشاد، أن يجدوا الصدر الواسع والعقل الكبير في تقبل وتفهم الأخطاء، ساعتها سيتقبلوا النصائح والأوامر والنواهي بكل أريحية، وذلك حين يوقنوا بشكل تام بأن هذه النصائح تهدف لتحقيق مصلحتهم وسعادتهم وحمايتهم من الشرور والمخاطر.

كل ذلك لن يحدث ولن يأتي بثمرة إلا بتوفيق وعون من الله عز وجل، ولذلك فإن الدعاء كان وسيظل دائما هو بوابة الخير ومفتاحه وطريقه.

اللهم احفظ أولادنا وارحمهم وتول أمرهم وأدبهم وعلمهم واهدهم وعافهم وسددهم ودبر جميع أمورهم صغيرها وكبيرها..

ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما.

يا رب: أغيبُ وأنت لا تغيب، وأموتُ وأنت لا تموت، وأفتقرُ وأنت لا تفتقر، وأعجزُ وأنت لا تعجز، فتولّأمرنا ولا تبعدنا عنك ولا تضلنا عن سبيلك.