بقلم: محمد خير موسى
في تحديات عصر ما بعد الحداثة، تبرز السيرة النبوية كمصدر لصلابة القيم والمرجعية الثابتة، تعزز التوازن وتحد من تشيّؤ الإنسان. السيرة تقف في وجه التحول إلى سلعة، تعيد الإنسان إلى مركزيته وتحث على التحرر من هيمنة المادة.
صلابة السيرة النبوية في مواجهة تحديات عصر ما بعد الحداثة
في كل حينٍ وكل عصر وكل جيل، يحتاج المسلم سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، يتعرّفها ويحيا معها وبها، وما تزال السيرة النبوية على مرّ الأيام منهلًا عذبًا، يرتوي منه الظامئ فيصلُ الرّيّ أطراف روحه وعقله، وإنها كلما تقادم الزمان عادت جديدةً تناسب العصر، بل تتسرّب إلى كل تفاصيله مهما كان شائكًا لتعالج أمراضه وتغسل أدرانه.
وفي عصر ما بعد الحداثة، الذي تعيشه البشرية اليوم ويتلاطم المسلمون بين أمواجه؛ فمنهم من تاهت سفينته في عبابه فيلتمس منارة هداية، ومنهم من يبحث عن طوق نجاة بعد أن سقط من السفينة وصار يعارك الموج الغلّاب؛ وفي هذا العصر العاتيةِ أمواجُه، الطّاغيةِ سماتُه والمهيمنة على كل تفاصيل الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية والفنية والأدبية والجماعية والشخصية، تبرز السيرة النبوية منارة هداية عند الشاطئ الآمن، وطوق نجاة في قلب الموج المتلاطم.
الصلابة في مواجهة السُّيولة
"لسيولة" من أبرز سمات عصر ما بعد الحداثة، وقد سرّعت في تكريسها واقعًا حالةُ الانفجار التواصلي الذي شهدته البشرية وأدّى إلى نزوح أفواج هائلة من البشر من العالم الواقعي إلى العالم الافتراضي، والسيولة في مرحلة ما بعد الحداثة – على حدّ تعبير عالم الاجتماع البولندي "زيجمونت باومان"- هي "مرحلة تفكّك المفاهيم الصلبة، والتحرّر من كل الحقائق والمفاهيم والمقدّسات”، فنحن نعيش في عصر ما بعد الحداثة حالة السيولة في كل شيء؛ سيولة المفاهيم وسيولة الأفكار وسيولة المبادئ وسيولة القيم، بل سيولة الإنسان نفسه، فمفهوم الإنسان يعيش تفكّكًا غير مسبوق في عصر الجندر الذي أوصل الإنسان في ما يسمّى "مجتمع الميم" إلى تسعةٍ وتسعين نوعًا في آخر نسخة.
وفي سلسلته عن السوائل وما أنتجته الحداثة السائلة، تحدّث باومان عما طالته السيولة في كتب عدة منفصلة، وهو "الحياة، والحبّ، والأخلاق، والأزمنة، والخوف، والمراقبة، والشرّ"؛ ولقد ارتكزت السيولة الطاغية على التفكيك والتقويض والعدميّة والإقصاء، وتحطيم المرجعيّات المركزية في حياة الإنسان.
في السيرة النبوية يجد المرء نفسه في خضمّ حياة من نوع مختلف عمّا يعيشه في الواقع؛ حياةٍ تواجه بطريقة هادئة وتجسيدية كل هذه السيولة التي تحيط بنا؛ حياة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وسيرته التي تمثّل الترجمة العملية للأوامر والفِكَر النظرية التي جاء بها القرآن الكريم، وتمثّل الإطار التطبيقي التدريبي للمسلم على وضوح المرجعية وصلابتها، وتحويلها من فِكَر نظرية إلى واقع سلوكي مَعِيش، وهذا ما عبّرت عنه أمّنا عائشة (رضي الله عنها) حين سُئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقالت: "كان خُلُقه القرآن"، أي: انظروا إلى القرآن الكريم، فما فيه من أوامر وأخلاق وفضائل فقد كان يترجمها إلى سلوك عملي تطبيقي، صلوات ربّي وسلامه عليه.
إن الحياة مع سيرة النبي صلى الله عليه وسلّم، تمثل نموذجًا تجسيديًّا تطبيقيًّا لصلابة الفكرة، وصلابة المبدأ، وصلابة القيم‘ وصلابة الأخلاق، وصلابة الأهداف، وقبل ذلك كلّه صلابة المرجعيّة؛ ففي سيرة النبي صلى الله عليه وسلّم يرى المسلم نموذجًا حيًّا متحركًا في واقع شائك، وهو مع ذلك متمحور في كلّ تفاصيل حياته حول مرجعيّة الوحي، فهو على صلة دائمة بوحي السماء، ينتظر الوحي لتطبيقه وتعليمه، ويبيّن فاعليّة الوحي في كل الأحداث الشّائكة.. وحضور الوحي جليٌّ في حركة الحياة اليوميّة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، في كلّ تفاصيلها السياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة والاجتماعيّة، وفي العلاقات بين أفراد المجتمع الواحد مسلمين وغير مسلمين، وبين أفراد الأسرة الواحدة، وفي العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
والسيرة النبوية هي مرجعية سلوكية صلبة قائمة بذاتها، كما أنها تمثل الترجمة السلوكية للمرجعية الصلبة النظرية المتمثلة بالوحي القرآني؛ وكونها مرجعية سلوكية صلبة فيه تدليل على أنها قابلة للتطبيق في السلوك الإنساني، فهي من جهة تواجه السيولة المهيمنة، ومن جهة أخرى تقدم النموذج الصلب ممكن التطبيق الواقعي، وتمثّل كذلك نموذجًا تطبيقيًّا لحياة تُعاش لأجل هدف أكبر من الذات، ورسالة أكبر بكثير من المنفعة الشخصية، واستعلاء على الجسد لأجل الفكرة، وتضحية بالنفس لأجل الرسالة؛ وكل هذا مما تعمل السيولة في عصر ما بعد الحداثة على تقويضه واعتباره غريبًا عن حياة الإنسان المعاصر.
في مواجهة نزعة الاستهلاك وتشيّؤ الإنسان
تحدث مالك بن نبي عن العوالم الثلاثة؛ عالم الأفكار وعالم الأشخاص وعالم الأشياء، وفي عصر ما بعد الحداثة انتقل الإنسان من الدوران حول الفكرة إلى الدوران حول الأشياء، فصارت الأشياء المادية هي أهم مرتكزات حياة الانسان في هذا العصر، وصارت الفِكَر لا تدور حول الأشياء فحسب بل غدت خاضعة لها وخادمة لها، وصار الاستهلاك أهمّ سمات هذا العصر المغرق في المادية والنفعية.
بل إن الأمر تجاوز ذلك بكثير، فلم يعد الإنسان يدور حول الشيء بل تحول هو إلى شيء؛ ودخلنا في حالة تشيُّؤ الإنسان، التي عبّر عنها الدّكتور عبد الوهاب المسيري بقوله: "التشيؤ هو أن يتحول الإنسان إلى شيء، حيث تُطبَّق الصيغ الكمية والإجراءات العقلانية الأداتية على الإنسان إلى أن يتساوى الإنسان وعالم الأشياء والسلع؛ فتسقط المرجعية الإنسانية وتصبح "الطبيعة- المادة" أو "السوق- المصنع" هي المرجعية الوحيدة النهائية؛ فتنتفي إنسانية الإنسان وتعمل فيه آليات التشييء والتّنميط والتفكيك”.
وتحول الإنسان إلى سلعة مثل بقيّة السلع، بل غدا الجسد – لا سيما عند المرأة- سبيلا إلى خدمة الأشياء والسلع الأخرى والترويج لها، وغدا الإنسان رقمًا ربحيًّا في صراع الاستهلاك المحموم؛ فتأتي السيرة النبوية لتعيد الأمور إلى نصابها، فتؤكد مركزية الإنسان في أي بنيان حضاري؛ إذ نرى فيها من لحظة ولادة النبي صلى الله عليه إلى وفاته إعلاء شأن الإنسان، فكان الإنجاز الأول لولادته ــ على سبيل المثال ــ عتق ثويبة مولاة أبي لهب، في إشارةٍ ضمنيّة لولادة مفهوم جديد في ذلك الواقع الصنميّ مع ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلم، يقوم على تحرير الإنسان من الرقّ.
كما يعيش المرء في السيرة النبوية مع الآليات العملية لتحرير الإنسان من سطوة المادة وتحريره من الرقّ والطغيان والاستبداد؛ فيكون الضعفاء والمستضعفون والمضطهدون أول من يسارع إلى اعتناق الإسلام لأنهم وجدوا فيه إنسانيتهم بعد أن عاملهم المجتمع بوصفهم محض أشياء تُباع وتُشترى.
ويعيش المرء مع السيرة النبويّة منهج النبي صلى الله عليه وسلّم في عتق الإنسان من الدوران حول الشخص الاعتباريّ – وهو القبيلة في جاهليّة جهلاء- ليدور حول الفكرة – وهي الوحي-، فتتحول مرجعيّته من الشخص الصنميّ الاعتباريّ إلى مرجعية الفكرة؛ فيعلو شأنه الإنساني بمقدار تعلّقه بالفكرة ودورانه حولها؛ ويصل الأمر في تربية المجتمع على الدوران حول الفكرة، أن يُنادى يوم أحد أن ابن قمئة قتل رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيُنزل الله تعالى قوله في سورة آل عمران: “وما محمَّدٌ إلَّا رسولٌ قد خَلتْ من قَبله الرُّسل ۚ أفإن مات أو قُتل انقلبتم علىٰ أعقابكم ۚ ومَن يَنقلبْ علىٰ عَقِبَيه فلن يَضرَّ اللَّهَ شيئًا ۗ وسيجزي اللَّه الشَّاكرين” [سورة آل عمران: 144] في تربيةٍ عمليّة على الدوران حول الفكرة، وهي الوحي كتابًا أو سنة جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
وعندما يحاول شاس بن قيس أن يُحيِي نزعة الدوران حول الشخص الاعتباري عصبيّةً وجاهليّة في أول الأمر في المدينة بين الأوس والخزرج، ويحاول آخرون إحياءها بين المهاجرين والأنصار يوم المريسيع في غزوة بني المصطلق فيُنادى: يا للمهاجرين، ويأتي الردّ: يا للأنصار؛ فيتدخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الموقفين تدخّلًا سريعًا معلنًا أنّها دعوى جاهليّة آمرًا: “دعوها فإنها منتنة؛ دعوها فإنها خبيثة”.
في كل تفاصيل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، نجد أنه يدحض الإنسان ذا البعد الواحد، الذي تشيّأَ ودار حول الشيء؛ فيبني الإنسان الحرّ ذا الأبعاد المتعددة مادةً وروحًا، الذي يعيش لروحه وقلبه كما يعيش لجسده بتوازن دون طغيان، كما أنه يربّي المجتمع كله على الدوران حول الفكرة، حتى إذا مات رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان إعلان أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه انعكاسًا لهذه التربية: "من كان يعبد محمّدًا فإن محمّدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت".
من يدرس سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقلبه وعقله فإنه يجد نفسه بشكل تلقائي يُعلي مركزية الوحي، أي مركزيّة الفكرة، ومركزية الإنسان الحضارية بوصفه إنسانًا لا سلعة، وهذا كفيل بمواجهة أحد أهم تأثيرات ما بعد الحداثة على الإنسان.
فالسيرة النبوية عنوان صلابة المرجعية وصلابة الفكر وصلابة القيم وصلابة المبادئ وصلابة المفاهيم، في وجه السيولة التي تجعل كل شيء من المبادئ والمفاهيم والمرجعيات يميد من تحت أرجلنا وعقولنا وقلوبنا، وهي عنوان إعلاء شأن الإنسان ليكون إنسانًا مكرمًا، يخرج من عبادة العباد وعبادة الأشياء والخضوع لهيمنة الاستهلاك والمادّة، ليكون رائدًا في إخراج البشريّة من أوحال الماديّة إلى أنوار الوحي.