وائل قنديل

من يصدّق أن شعباً مقاوماً، تحت حصار من جميع الجهات، استطاع أن يصمد أكثر من مائتي يوم أمام القوة العسكرية الأضخم في العالم (أمريكا) والجيش الأكثر تسليحاً وحصولاً على الإمدادات في الكوكب (جيش الاحتلال الصهيوني) والخذلان الأبشع في التاريخ من القريب قبل البعيد؟.

هي مائتا يوم من اجتراح المعجزة، وتسجيل البطولات الأسطورية، في صد عدوان كان يعلن أنه لا يحتاج أكثر من بضعة أسابيع لكي يقتل إرادة المقاومة عند الشعب الفلسطيني، ويجعله يطلب النزوح أو يرضى بالحياة مع الاحتلال. هي معجزات بالنظر إلى أن الضربات لم تكن فقط عسكرية تأتي من العدو، بل كانت أيضاً تجيء من أشقّاء تركوه ينزف ويجوع ويشرّد من دون أن يتدخّلوا لردع العدو، أو يزودوه بطلقة بندقية واحدة يواجه بها الترسانتين الأمريكية والإسرائيلية.

هي مائتا يوم لم تجرؤ خلالها دولة عربية واحدة على قطع علاقتها بالكيان الصهيوني أو حتى تجميدها، أو تلوح بتجميدها، ضغطًا على المعتدي كي يتوقف عن جرائمه..لم تطرد واحدة من عواصم التطبيع سفيرًا للعدو أو تسحب سفيرها من عنده، أو تترك شعوبها تعبر عن تضامنها مع الشقيق الذبيح. رأينا العكس من ذلك كله، فانتعشت العلاقات التجارية بين القاهرة وتل أبيب فيما خصّ صفقات غاز الأرض المحتلة الذي يشتري به الاحتلال صمت القاهرة وعجزها وضغطها على المقاومة كي تخضع وتذعن لما يريد العدو فرضه عليها بالإرهاب. كما لم تتوقف عمّان عن مدّ يدها للعدو كي يتعطف عليها ويمنحها الماء، مائة مليون متر مكعّب من مياه فلسطين المحتلة يبيعها العدو للأردن، يقال إنها زادت بكمّيات إضافية مجانية بعد التصدّي للمسيّرات الإيرانية التي كانت في طريقها لضرب الاحتلال.

لم تتحمّل عمّان والقاهرة غضب شعبيهما من أجل غزّة، فاشتغلت ماكينات القمع في العاصمتين الأقرب لفلسطين، ولم تتوقف الاعتقالات بحقّ المتظاهرين من أجل إيقاف العدوان على غزّة، وإيقاف جسور التطبيع الاقتصادي مع الكيان الصهيوني، واستخدام أوراق ضغط كثيرة يمكنها أن تسهم في إنهاء عذابات الشعب الفلسطيني المحاصر. تقول لنا مائتي يوم مرّت من المذابح الصهيونية أن العاصمتين العربيتين الأقرب لفلسطين هما الأكثر تلمظًا وكراهية لروح المقاومة عند الشعب الفلسطيني، إذ لا تخفيان تحريضهما على المقاومة، ولا تتوقّفان عن دعم كل محاولة لزرع الفتنة بين الشعب ومقاومته، أو تصوير الأخيرة وكأنها ليست من صلب هذا الشعب، كما لا تمثله أو تعبر عن حلمه في التحرير، وهو ما ينعكس في تصريحات واضحة تحمل المقاومة المسؤولية عن مأساة غزّة، وكذا المسؤولية عن فشل مفاوضات التبادل ووقف القتال، بحيث لا تجد اختلافاتٍ كثيرةً بين ما تصرّح به واشنطن وتل أبيب وما يصدر من القاهرة في هذا الشأن من خطاب دبلوماسي وإعلامي يضج باستمرار المقاومة.

في حالة القاهرة تحديداً، يبدو الأمر أكثر إثارة للأسى والدهشة، إذ تأتي الدولة التي أسّست علاقاتها التاريخية في الدائرتين الأفريقية والعربية على دعم حركات التحرّر ومقاومة الاحتلال، وخصوصاً في خمسينات القرن الماضي وستينانته بعد ثورة 1952، تأتي في صدارة من يكيلون الاتهام والتحريض على المقاومة الفلسطينية. يبعث على الضحك كذلك أن الإعلام المصري المرتبط بالسلطة، والذي لا يكفّ عن الهجوم على المقاومة في غزّة، يتباهى في اللحظة ذاتها بالدعم المصري التاريخي للمقاومات الأفريقية ضد الاحتلال والاستعمار. والحديث هنا ليس عن تافهين يحرضون على المقاومة الفلسطينية في الفضائيات، بل دعني أنقل لك سطوراً منشورة على الموقع الرسمي للهيئة الوطنية للإعلام، التي تنهض بوظيفة ضابط الخطاب الإعلامي المصري. ينشر الموقع على لسان سيد رشاد، الأستاذ المساعد بكلية الدراسات الإفريقية العليا بجامعة القاهرة، والمنسّق العام للطلاب الافارقة الوافدين، وعضو لجنة الترجمة في المجلس الأعلى للثقافة، سيد رشاد، ما يلي: "كان لمصر الدور الأكبر فى تحرير أكثر من ثلاثين دولة إفريقية بعد سنوات قليلة من ثورة 23 يوليو 1952، فقد ساندت القاهرة ثورة الماوماو فى كينيا بقيادة جومو كينياتا، ودعمت الكونغو بإرسالها قوات لحفظ الاستقرار إليها، علاوة على الموقف المصرى المناهض لنظام الفصل العنصرى فى جنوب إفريقيا، ودور مصر الفاعل فى دعم المؤتمر الوطنى الإفريقى بزعامة نيلسون مانديلا. كما شاركت مصر فى تأسيس وتمويــــل " لجنة التنسيق لتحرير إفريقيا " التى تأسست فى مايو 1969، وأسهمت مصر عن طريق هذه اللجنة فى تقديم المساعدات المادية والعسكرية لحركات التحرير الإفريقية، وقامت مصر بفتح مراكز للتدريب العسكرى أمام كوادر هذه الحركات. كما فتحت أبوابها أمام حركات التحرّر الإفريقية التى كانت تجتمع فى مقر الرابطة الإفريقية بالزمالك التى أنشئت عام 1955، ثم تحولت إلى الجمعية الإفريقية فى عام 1972.. كما أنشأت مصر الإذاعات الموجهة باللغات الإفريقية لمخاطبة الأفارقة بلغاتهم المحلية والتى بثت برامجها بنحو 33 لغة إفريقية ومازالت تعمل حتى الآن".

ما الذي جعل القاهرة الجديدة غريبة وكارهة كل إرث القاهرة القديمة، الحقيقية، إلى هذا الحد؟ لماذا صارت قاهرة "صوت العرب" خنجرًا في ظهر مقاومة فلسطين، وما الثمن؟.

المصدر: العربي الجديد