أُضحية و تَضحية وثبات
الحمد لله على واسع فضله، والله أكبر ما لبى الملبُّون، والله أكبر ما طاف الطائفون، والله أكبر ما ضحى المضحون، الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
إنها أيام التضحية والفداء وأوقات الطاعة والتسليم لإرادة الله، ممزوجة بفرحة الانتصار على النفس والتسليم لأمره والرضا بقضائه والخضوع لإرادته، فبعد اختبارات قاسية وأحداث جسام يأتي العيد ليكون المكافأة التي منّ الله بها على المضحين الذين يقتدون بأبي الأنبياء إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام؛ لنتعلم من صبرهما الدروس ونأخذ من تسليمهما العبرة ونعلم أن المسلم إنما يُمتَحن؛ ليُمنَح، ويُختَبر؛ ليَعلُو، ويُبتَلى؛ ليَسمُو: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (الصافات: 102).
ما أحوج اﻷمة في هذه الأيام المباركة أن تتعلم دروس التضحية من هذه الأسرة المباركة التي قبلت التضحية رغم عظم المصاب، فالولد قَبِلَ أن يضحي بنفسه، والأب رضي بالتضحية بولده الوحيد، والأم أطاعت زوجها وتركت صبيها دون أن تعترض ولو بكلمة واحدة؛ حتى تنزَّلت رحمة الله بافتداء نبي الله إسماعيل –عليه السلام-.
فليت الأمَّة تدرك أن الإسلام يأمرها بالتضحية والفداء بعد أن تَكاثر عليها الأعداء، وتكالبتْ عليها الأُمَم، وسُلبت منها المقدسات، وانتُهكت الأعراض، وسُفكت الدماء، واضطُهد العُلماء المخلصون، وحورب المصلحون وأصبحوا غرباء في أوطانهم مطاردين بين أهليهم.
وليت الأمة تدرك أنّ التضحية هي أساس العزة تسمو بصاحبها عن الركون والانكسار. وتستدعي همة عليّة؛ تستعصي على من ضعف قلبه ودنت همته، وطغت عليه نفسه، واستسلم أمام مغريات الدنيا.
إن التضحية– وإن كانت ركيزة من ركائز هذا الدين- فهي عند "الإخوان المسلمون" ركن من أركان بيعتها. وعمود من أعمدة حركتها، ومرتكز لانطلاقتها، يقول الإمام المؤسس حسن البنا: "وأريد بالتضحية: بذل النفس والمال والوقت والحياة وكل شيء في سبيل الغاية، وليس في الدنيا جهاد لا تضحية معه، ولا تضيع في سبيل فكرتنا تضحية، وإنما هو الأجر الجزيل والثواب الجميل".
وللتضحية في سبيل الله أشكال وصور تتعدد وتتنوع، فهي تضحية بالنفس والولد وتضحية بالمال، تضحية بالعظيم واليسير، بالقول والفعل، بنشر العلم وتقديم العون والخير، تضحية بكلمة الحق عند سلطان جائر وإن زاد أعوانه، ونصرة للمظلوم وإن قل أنصاره، وصدعٌ بالحق وإن غاب شهوده، وبذل للجهد والوقت وإن كثر القاعدون، وذلك تأسيًا بما فعله إبراهيم- عليه السلام- الذي قدم لنا القدوة في الفداء والمثل في البذل في سبيل الله تعالى بلا تردد، والشكر على نعم الله وآلائه: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ ۚ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (النحل 120-121).
طوفان المبادئ يزيح الأقنعة الزائفة
إن الأحداث التي تشهدها فلسطين الحبيبة والمثال الصادق الذي يضربه رجال صادقون ونساء صادقات وأطفال تخطوا حد الخيال، لَهُوَ أروع مثال على التضحية في أبهى صورها وأجلى معانيها أمام آلة عسكرية إجرامية دعمتها قوى الأرض بلا حياء وساندتها كبرى الدول بلا مواربة أو خفاء. لقد أطاح الطوفان المفعم بالتضحية والفداء بأقنعة الكذب والخداع والعمالة، بل وأطاح بدعاوى الإنسانية الكاذبة، والأخلاق الزائفة، فكان البون شاسعًا كبيرًا بين أهل الإيمان الصادق الذين يحملون أرواحهم على أكفهم ويمارسون حربًا أخلاقية يتحلون فيها بقيم الإسلام النبيلة فيقتلون فريقًا ويأسرون فريقًا من الجنود المعتدين، وبين من يمعن في الأطفال والنساء والمدنيين قتلًا وحرقًا وتنكيلًا، ويحتفل بحرق المكتبات وتمزيق الكتب لينكشف اللثام عن الفروق الواضحة بين أخلاق من ارتكس في حمأة الباطل وانتكس في وطأة الجريمة وبين من تأسى بخاتم النبيين- صلى الله عليه وسلم- الذي أوصى جنوده وهم يتأهبون للخروج للجهاد، فقال: "لا تغدروا ولا تغلوا، ولا تقتلوا وليدًا ولا امرأة ولا كبيرًا فانيًا ولا منعزًلا بصومعة، ولا تقربوا نخلًا ولا تقطعوا شجرًا ولا تهدموا بناءً"؛ فهذا ديننا الذي نحيا به في السلم والحرب وهكذا يخوض أتباعه المقاومة الباسلة الخلوقة أمام جيش غاشم مدجج بالسلاح والعتاد لا أخلاق له.
لقد أطاح الطوفان- من بين ما أطاح- بمصداقية المؤسسات الدولية في مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية والتي وإن أصدرت قرارات تنصف المظلوم حينًا ولكنها تقع في يد الفيتو الأمريكي أحيانًا ليحولها إلى حبر على ورق أو يفرغها من مضمونها أو يضغط على المؤسسات لإدانة المظلوم ومساواته بالمعتدين. ومازال الطوفان يجرف كل الزيف والخداع ويكشف كل الوجوه الدميمة والأخلاق الذميمة ويعلم العالم دروسًا سيسجلها التاريخ بأحرف من نور، بعد أن يحق الله الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون، وإن غداً لناظره قريب.
في مصر تضحيات غالية وجهود محمومة لإفشالها
وفي مصر تتعاظم تضحيات المخلصين من أبناء الوطن أمام بطش سلطة غاشمة، فرضت القيود على الجميع وأحكمت القبضة على الشعب بكل فئاته ومكوناته وفصائله، فبعد أن أصدرت أحكامًا بالإعدام على فضيلة المرشد العام لجماعة "الإخوان المسلمون" الدكتور محمد بديع وعدد من إخوانه، ها هي تصدر حكمًا بسجن السياسي أحمد طنطاوي لتعاقبه على اجترائه الدخول في منافسة سياسية ظن الرجل أنها يمكن أن تؤتي أكلها وتحدث تغييرًا.
إن هذه التضحيات التي يقدمها أبناء الوطن إنما تأتي في ظل معاناة شعبية تتزايد وطأتها ومخاطرها وتتسارع وتيرتها، حيث يمعن الانقلاب كل يوم في مزيد من إذلال الشعب وإنهاكه بالأعباء وإثقاله بالأزمات وانتهاك سيادة الوطن والتفريط في مقدراته، كل ذلك في سياق جهود محمومة لإضعاف مصر والتفريط في ثرواتها وإفشالها لتكون تابعة لا رائدة، وممزقة لا موحدة.
فبالرغم من الأموال التي تدفقت على سلطة الانقلاب من كل حدب وصوب، وبالرغم من المحاولات الإقليمية والدولية المحمومة لإبقاء هذه السلطة والحفاظ عليها لتأمين المشروع الصهيوني؛ إلا أن هذه الأموال تتبخر بين عشية وضحاها وتختفي معالمها بعد أيام معدودة من التبشير بقدومها، مع غياب الرقيب أو الحسيب، حيث يفقد الشعب حقه في الرقابة والمحاسبة أو حتى حقه في المعرفة.
وعلى مستوى السيادة الوطنية يستمر الانقلاب في الإذعان للصهيونية العالمية والتفريط في كرامة الوطن وحدوده التي ينتهكها الاحتلال كل يوم؛ من خلال قتل الجنود على الحدود دون أن تجد من يحرك ساكنًا أو يثأر لكرامة الوطن المستباح.
ففي الوقت الذي تثور ثائرة المنقلب ضد أي تحرك على الحدود الغربية مع ليبيا، معتبرًا أن ”سرت“ التي تبعد عن حدود مصر 1000 كيلو متر خطًا أحمر يمس الأمن القومي ولا ينبغي تخطيه، نجد الاحتلال الصهيوني على الحدود الشرقية رافعًا أعلامه وشاهرًا سلاحه على مرمى حجر مع الحدود المصرية فيقتل من أبنائنا وجنودنا وهو مطمئن واثق لا يخشى سوء العاقبة!
وعلى المستوى الاقتصادي يجتاز الانقلاب كافة الخطوط الحمراء؛ فيرفع الدعم عن رغيف الفقراء المعدمين ويرفع الدعم عن الكهرباء وكافة الاحتياجات الملحة لشعب يرزح تحت نير الفقر وينافس على الحد الأدنى للأجور بين شعوب العالم.
إن هذه الجرائم التي تزداد حدتها يومًا بعد يوم، تؤكد للجميع أن الانقلاب الذي حدث في 2013 م لم يكن انقلابًا على تيار بعينه ولم يكن استجابة حقيقية لمطالب قطاع من الشعب، ولكنه كان -على وجه الحقيقة- انقلابًا على إرادة الوطن وانقلابًا على مكتسبات ثورة يناير.
ويتأكد اليوم للجميع أن تغيير هذا الواقع والعودة إلى المسار الديمقراطي الذي أرست ثورة يناير مبادئه، وقطعت فيه شوطًا كبيرًا، هو الحل الوحيد للخلاص من هذا الواقع البئيس لاستئناف مكاسب الشعب التي رواها بدماء شهداء الحرية، تمهيدًا للانعتاق من هذه المرحلة التي ذاق فيها الناس الويلات؛ ليأذن الله أن تزول إلى غير رجعة، ونستأنف طريقنا نحو الحرية واستقلال الإرادة والتنمية الحقيقية.
السودان الذي لا بواكي له
على الصعيد الإقليمي، تشهد أرض السودان الشقيق أحداثًا جسامًا وتضحيات غالية لأمة يسعى أعداؤها إلى تمزيقها وتفتيت كيانها وإضعاف شوكتها وتفريق جمعها، وسط تعتيم إعلامي غير مسبوق وغياب للمعلومات والحقائق عن آلة الإعلام التي أغفلتهم عن عمد، وصرفت الأنظار عنهم تحت وطأة أهداف إقليمية ودولية مشبوهة؛ حيث بلغ عدد القتلى حتى الآن ما يزيد عن 14,000 قتيل، وأصيب عشرات الآلاف، ونزح ما يزيد عن 8,6 مليون شخص، بينهم 1,8 مليون نزحوا إلى خارج السودان، ويواجه أكثر من نصف سكان السودان - أي حوالي 25 مليون مواطن - خطر عدم الوصول إلى احتياجاتهم الإنسانية الماسة. ويعاني نحو 18 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي الحاد.
إن الحل في السودان– كما في غيره من البلدان المنتكسة– هو امتلاك الشعب إرادته وإجراء انتخابات حرة ونزيهة لا تستثني طيفًا سياسيًّا ولا تقصي مكونًا شعبيَّا؛ لتفرز حكومة مدنية تتولى شؤون الحكم وتتولى السلطة الفعلية في البلاد، وتحافظ على وحدة ترابها ويتوحد فيها الجيش تحت قيادة واحدة تتفرغ لحماية السودان من الأطماع الإقليمية والدولية التي تتلاعب بالشعب وتسعى لتفريق كلمته وتفتيت مكوناته.
إننا ندعو كافة القوى الشعبية عربيًّا وإسلاميًّا أن تهب لنجدة إخواننا في السودان وتقديم كافة أشكال الدعم والمساعدات الإنسانية الفورية لجميع المتضررين، ونناشد المنظمات الإنسانية والإغاثية العمل على تخفيف معاناة الشعب السوداني وتقديم كل ما يمكن من دعم لتجاوز أزمته الإنسانية العميقة.
والله أكبر ولله الحمد
أ. د. محمود حسين
القائم بأعمال فضيلة المرشد العام لجماعة " الإخوان المسلمون "
الخميس 29 ذو القعدة 1445 هجرية الموافق 06 يونيو 2024م