إحسان الفقيه

يقول أهل اللغة إن استخدام التضاد يبرز المعنى ويقويه، لكن على أرض هذا العالم البائس، الصور المتضادة كثيرا ما تدمي القلب وتبكي العين.

قبيل العيد تستعد الديار لعودة المغتربين والمسافرين – للعمل أو الدراسة على اختلاف المسافات – إلى حضن الأسرة الدافئ، لتكتمل بهجة العيد، فما من شيء ينقصها مثل غياب الأحبة. وكعادة الناس في ليلة العيد، يهاتف بعضهم بعضا لبث التهاني، وتكسو الملامح أمارات البشر والسعادة، ويرتدون أجمل الثياب، ويصلِون الليل بالصباح فرحا وابتهاجا.

في هذا العالم ذاته، وتحت أديم السماء نفسها، تنزوي عن الكون بقعة من أرض حزينة تسمى غزة، في هذا التوقيت ليس لهم من ملامح العيد سوى الذكريات، يتلمسون طيف عيدهم من خلال ما استقر في الذاكرة، ويحصون الأحبة الذين فارقوا الأرض إلى السماء، ويتساءل من فرّقتهم الحرب وانقطعت عنهم الأخبار: كيف حالهم اليوم، أفي الأحياء هم أم في عداد الأموات. الثياب الرثة المتهدّلة على أجساد فقدت نصف أوزانها جوعا، الوجوه التي تبدلت معالمها وتفحمت من القيظ وسطوة الشمس، الأحذية البالية التي طالتها محاولات الإصلاح المرة تلو المرة، والأعين الغائرة التي تناوب عليها الجوع والخوف والفزع، تلك هي غزة في عيد الأضحى.

نتوجه في البكور رجالا ونساء وأطفالا صوب الساحات والمساجد لأداء صلاة العيد، حيث تتواصل التكبيرات، نتبادل الابتسامات مع الآخرين، ونتصافح مع الأهل والجيران والأصدقاء عقيب الصلاة، ويلهو الأطفال حولنا فيزيدون من سعادتنا وبهجتنا بهذا اليوم الفضيل.

في غزة أيضا يؤدون صلاة العيد، لكنهم يجتمعون على شعور واحد، ربما كانت هذه الصلاة هي الأخيرة، ربما تعرضوا للقصف ولم يتجاوزهم الموت هذه المرة، يكبرون لتصل تكبيراتهم إلى عنان السماء، لكن «الله أكبر» التي يلهجون بها تخرج معها حزمة من المعاني والزفرات، الله أكبر من هذا العدو المتجبر، الذي أغراه بنا هوان أمتنا، الله أكبر من هؤلاء المتخاذلين الذين تركونا وحدنا مقطعين أواصر الدين والعروبة والإنسانية والتاريخ والجغرافيا، الله أكبر من هذا العالم الحقير الذي لا يعرف سوى قانون الغاب ولا يتورع عن إطلاق الشعارات الكاذبة للعدل والحرية والكرامة الإنسانية. إنه يوم التضحية والفداء تعرّض فيه الخليل إبراهيم عليه السلام لأعظم امتحان وابتلاء، حين تلقى أمرا إلهيا بذبح ولده، ولما كان ممتلئا يقينا بحكمة الله وتنزيهها عن العبثية، استجاب واستسلم لأمر ربه، ففدى الله الغلام الصابر بكبش أملح، صار سُنة أبدية تجدد العهد بعقيدة الاستسلام والطاعة لرب العالمين. فنهرع إلى ذبح الأضاحي قربة لله، وطعمة للفقراء، وتوسعة على الأهل، إذ تُبسط الموائد العامرة باللحم وأصناف الطعام. غزة كذلك لا تخلو من الأضاحي، لكن التضحية فيها لا تقتصر على العيد، في كل يوم هناك أضحية وتضحية. أهل غزة ُيقتلون ويُذبحون كأضحيات عن هذه الأمة التي تركت معركتها وتنحت عنها جانبا، وتركت غزة وحدها على خط المواجهة مع عدو غاصب يؤازره الغرب والشرق. إن صدقنا مع أنفسنا فسوف نقر بأن الأمة ضحت بغزة، منهم من ضحى بها لينال الحظوة والرضا من الغرب، ومنهم من ضحى بها ليتخلص نهائيا من صداع يدق رأسه يسمى القضية الفلسطينية، ومنهم من يشعرك بأنه العدو ذاته في ثوب الصديق.

في الوقت الذي نمرح في موائد العيد – حتى الفقراء منا بالأرزاق التي تفتح عليهم في هذا اليوم- هناك في غزة من نسي طعم اللحم ومنظره. ستجد أصحاب البطون الخاوية يأكلون من خشاش الأرض، يبحثون عن حفنة أرز بين أكوام التراب، وفي المناطق الأسعد حظا يقفون في الصفوف الطويلة في القيظ وتحت أشعة الشمس، للحصول على وجبة من التكايا يسكتون بها هتاف قرقرة البطون، وهم يتساءلون هل سيجدون مثلها في اليوم التالي، أم لا، فاقدين بذلك أدنى حقوق الحياة وأهمها: الأمن النفسي والأمن الغذائي.

عندما نتحدث عن شعائر هذه الأيام وتعبيرها عن أمة الجسد الواحد، ترى ما شعور أهل غزة وهم محاصرون من العدو والصديق، كيف ينظرون إلى هذه الأمة التي تخلت عنهم، وتعجز حتى عن إدخال المساعدات الإنسانية إليهم، إلا بما يسمح به عدوهم، كيف سيشعرون بالانتماء إلى أمة لاهية عن جراحهم، خرجت منها ألسنة شامتة بمصابهم، وأقلام تتعاطف مع أعدائهم.

إنما غزة نموذج لهذه الصورة المقابلة، وإلا فالجراح كثيرة ومتناثرة، هناك السودان المنسية التي جاع أهلها، رغم خيرات أراضيهم، واغتصب حرائرها، وهُجّر سكانها، وذُبح أهلها على يد ميليشيات تعيث في الأرض فسادا تدعمها أياد خارجية، ولا تجد من يوقفها ويردعها. وهناك اليمن الجريح، الذي عانى ويلات الحرب، وأنهكته المجاعات، وأكلته الأوبئة، وأعياه الانقسام والتناحر. وهناك المدن المنكوبة في سوريا التي تتعرض لبطش النظام الأسدي الجائر، والتي تقصف بطائرات وقاذفات ثمنها من قوت وخيرات وثروات هذه المدن. القائمة طويلة، وكل من فيها دخل عليهم هذا العيد وقد خيمت عليهم الأحزان والدموع ورثاء الضحايا والمفقودين.

ذات يوم في العصر الذهبي للأندلس، عاد الحاجب المنصور إلى قرطبة من قتال الإسبان منتصرا، ووافقت عودته صلاة عيد الأضحى والناس في مصلاهم يكبرون ويهللون، وقبل أن ينزل من على صهوة جواده، اعترضت إحدى العجائز طريقه قائلة: يا منصور يا منصور، يفرح الناس وأبكِي؟ قال المنصور: وما ذاك؟ قالت: ولدي أسير في حصن رباح.

كانت فرحتها المنقوصة بالعيد كفيلة بأن ينادي المنصور وهو لم يزل بعد على ظهر فرسه بالتوجه إلى حصن رباح، وأجبر الأعداء على إطلاق سراح جميع الأسرى ومنهم ولد العجوز. فبأي عيد يفرح أولئك الذين يئنون جوعا تحت أزيز الطائرات والقذائف المدمرة، ويحصون أنفاسهم في حياة بدت بالغة القصر، مع انتظار الموت في كل لحظة، في زمن خلا من المنصور والمعتصم.

لا أهدف بذلك إلى إفساد فرحة القراء بالعيد، ولكنني فقط أقرع الجرس للتذكير، لئلا تأخذنا آفة الاعتياد، وننسى أجزاءنا الصارخة النازفة في هذه الأمة. فضلا، فضلا، فضلا، أخفضوا صوت فرحتكم عن إخوانكم المنكوبين، افرحوا في خاصة أنفسكم وفي دياركم، دون أن تنقلوا مظاهر بهجتكم إلى مواقع التواصل الاجتماعي، ففي وقت فرحتكم هناك من يئن جوعا، من يتفطر قهرا، من يشيع شهيدا، من يرتقب موتا، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

المصدر: القدس العربي