https://ikhwanonline.com/article/266140
الأربعاء ١٣ شعبان ١٤٤٦ هـ - 12 فبراير 2025 م - الساعة 08:40 م
إخوان أونلاين - الموقع الرسمي لجماعة الإخوان المسلمون
البيت السعيد

الحلف الخفي

الحلف الخفي
الأربعاء 22 يناير 2025 01:32 م
بقلم: نور الهدى سعد

البيت المرتب النظيف يتحوَّل في لحظاتٍ إلى سلة مهملات تعبث في جوانبه الفوضى، وتصبح جدرانه مناديل ورقيةً لمسح الأصابع بعد تناول الطعام، وتحل السجاجيد محل صندوق القمامة: تلقى عليها الأوراق الممزقة والنفايات، وتنتشر عليها الأتربة والحصى وكل ما حملته الأحذية من الشارع إلى البيت.

 

هكذا يصير حال بيوتنا حين يزورنا معارفنا وأقاربنا بأطفالهم، ويتفرغون لتبادل الأحاديث معنا؛ ليتركوا صغارهم ينتقمون من بيوتنا، ويفرِّجون هموم طفولتهم المكبوتة فيها!.

 

يتجول الصغير في أرجاء الشقة بقطعة حلوى يتساقط عسلها وفتاتها في كلِّ الغرف، وتصرُّ الصغيرة على أن تمسك كوبَ الماء بنفسها فينسكب الماء وينكسر الكوب، يتصارع الأطفال على اللعب، ويتعالى صراخهم، ويقذفون بها بعضهم فتضل لُعبةٌ طريقَها وتصطدم بزجاجٍ لتشرخه، وتنافسها أخرى لتنزلق في المرحاض.

 

الأبواب المغلقة لا تستعصي عليهم، والأدراج بالنسبة لهم غرفٌ سحريةٌ تستثير فضولهم، فلا يهدأ لهم بال حتى يُخرجوا أحشاءها، يتنازعون على دخول دورة المياه، ويعبثون بالماء فتتكوم الملابس المتسخة والمبتلة في حقائبِ الأمهات التي حشرن فيها ملابس إضافيةً لصغارهن.

 

والأم تكتفي بالنهر والعتاب والتهديد بالضرب وإبلاغ الأب، ثم تستدير إلى مضيفتها لتحكيَ لها عن شقاوةِ العيال، فيرد ضميرها وغيظها المكبوت، وتغتصب ابتسامةً مصطنعةً ولسان حالها يقول: واضح دون أن تحكي.

 

وتستمر حالة الحرب في المنزل المسكين، ويدق صداع الصغار رأسَ ربة البيت، حتى إذا انصرفوا أمسكت رأسها وقامت مهدودةً لتصلح ما أفسدوه، وترد لبيتها اعتباره، وتجعله مرةً أخرى صالحًا للسكن، وتتقبل مرغمةً اعتذار ضيفاتها عن سلوك صغارهن وهي تقول باستسلام "ربنا يحفظهم"!، وتنتهي المأساة لتبدأ من جديدٍ بزيارةٍ أخرى، يتحول معها البيت الهادئ إلى أنقاض!!.

 

التزاور والتعارف وصلة الأرحام.. كلها قيمٌ جميلةٌ نُفسد نحن جمالَها بما نُحيطه بها من سلوكياتٍ خاطئةٍ؛ فنحن لا نملك إلا أن نُكرِم ضيوفنا، ولكنهم- بصغارهم- قد يُحوِّلون كرمنا إلى نقمةٍ بمشروباتٍ مسكوبةٍ على الأرض وبقايا حلوى تُلوث الجدران، ولا نستطيع إلا أن نبتسمَ في وجوههم، فإذا بهم يظنون أننا راضون عمَّا يفعلونه ببيوتنا.

 

نُقبِّل الصغار ونُداعبهم، ونرقُّ لطفولتهم، فيعتبرون هذا جوازَ مرور وضوءًا أخضرَ يعبثون بموجبه في غرفنا المغلقة فسادًا!.

 

آداب الزيارة واحترام ممتلكات الغير أمورٌ قد تغيب كثيرًا عن سلوكياتنا اليومية، وتنتقل عدوى غيابها إلى صغارنا الذين يُحاكوننا ويعتبروننا مثلاً أعلى، ولا يعرفون صوابًا إلا ما نفعله أمامهم.

 

ولأننا لا نستطيع أن نحتدَّ على ضيوفنا أو أن ننهر صغارهم ونُربيهم بدلاً من آبائهم وأمهاتهم، فإننا نقبل الأمر الواقع على مضضٍ، وربما اغتبنا ضيوفنا وعبنا سلوك صغارهم بعد أن ينصرفوا، وحينئذٍ تتضاعف المأساة آثامًا نكتسبها ومعاناةً لا تنتهي في تنظيف بيوتنا وترتيبها.

 

وكثيرات منا اعتدن هذا الوضع، خاصةً إذا كانت بيوتهن غير مرتبة أو أنهن قد اعتدن كثرة الضيوف، ولكن هذا الحال لا ينهض دليلاً على أن هذا الوضع طبيعيٌّ لا شيء فيه، ولا يصلح حلاًّ للمشكلة.

 

هناك حلولٌ فرديةٌ تبدأ من التلميح إلى إظهار الضيق إلى التصريح، وربما تنتهي بالقطيعة، ولكن المسألة ليست بيوتًا ينهار نظامها، وإنما قيمُ مجتمعٍ وسلوكياتُ جماعةٍ مسلمةٍ من المفترض أن تكون قدوةً، وأن يكون أفرادها مواطنين في أمةٍ إسلاميةٍ قائدة وشاهدة.

 

النظر إلى هذا الأمر كمشكلةٍ عامةٍ يعني أن نبحث له عن حلٍّ عام، أيضًا حل يبدأ من بيوتنا ويمتد إلى مدارسنا ومساجدنا وجميع ساحاتنا التربوية التي يجب أن يتعلم فيها صغارنا آداب الزيارة وكيفية المحافظة على بيوتِ مَن يزورونهم بصحبةِ آبائهم، وأن يُدركوا الفرقَ بين كبتِ الحرية أو منع الانطلاق وبين التزام السلوك الإسلامي القويم، على أن نكون قدوةً لهم، نفعل أكثر مما نعظ، ونسأل أفضل مما نتكلم، ونرد كل نصيحةٍ نُسديها لصغارنا إلى أصلها الإسلامي، وأجرها الأخروي، وأن نضع نحن الآباء والأمهات أنفسنا مكان غيرنا، فنرضى لهم ما نرضاه لنا، حينئذٍ لن يكون اصطحابنا لصغارنا في زياراتنا نذير شؤم، ولن نعتبر أطفال الأقارب والجيران أعضاءً في حِلْفٍ خَفِيٍّ لا هدفَ له سوى إغاظتنا وإفساد أشيائنا وتحميلنا ما لا نُطيق!.