الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه..
يهل علينا شهر الله الحرام "ذو القعدة" ليذكرنا ببدء الحجيج الاستعداد لرحلتهم المباركة لإعمار البيت الحرام، والاستعداد لمناسك الحج، مهللين ملبين مستنين بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، يحملون أشواقهم بين ضلوعهم، وتترقب نفوسهم ساعة أن تقع أنظارهم على الكعبة المشرفة، فتتضلع قلوبهم محبة كما تتضلع مياه زمزم، وتطوف قلوبهم في أنوار اليقين قبل أن تطوف أجسادهم بيت الله الحرام، وتسعى لمرضاة الله تعالى قبل أن تسعى بين الصفا والمروة.
إنها لحظات فارقة ومشاعر فياضة وذكريات يسترجع فيها المسلم عمرة النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة؛ فيتلمس الطريق الذي سار فيه الحبيب والخطى التي مر عليها؛ لعل الخطى تصادف موضع الخطى، ولعل القلوب تستحضر جلال المشهد وعبق التاريخ.
تمر هذه الأيام وتلك الذكريات على الأمة الإسلامية لتمسح ما اعتراها من حزن وما أحاطها من خطوب وما أصابها من بلاء، استبشارًا بنصر عزيز وفتح قريب تنكشف فيه الغمة وتمر فيه اللحظات العصيبة، وتعود للأمة مكانتها وللمسلمين دورهم المفقود.
إن ذكريات "ذي القعدة" تقف شاهدًا على بشرياتٍ انكسرت فيها شوكة المتربصين وانهزمت فيها جموع المعتدين؛ فولوا الأدبار بعد أن تظاهروا على المسلمين من كل حدب وصوب، واجتمعوا عليهم من كل مكان؛ فقُطع دابر القوم الذين ظلموا.. والحمد لله رب العالمين.
ولعلنا نقف من بين ما نقف على أحداث ذي القعدة في العام الثاني عشر الهجري عندما تكالبت جموع الفرس والروم ومن والاهم من مشركي العرب للقضاء على المسلمين، فعقدوا تحالفًا ثلاثيًّا لوقف تقدم المسلمين وإنهاء وجودهم بأرض العراق والشام، فبلغ الأمر إلى القائد الفذ خالد بن الوليد رضي الله عنه، وهو مرابط بجيشه على حدود الشام مع العراق، فقرر انتظار هذا التحالف والاصطدام معه عند منطقة الفراض، وكان جيشه يقدر بعشرين ألفًا، بينما كان جيش التحالف من الفرس والروم ومواليهم من العرب يقدر بمائة وخمسين ألفًا! وقد أبى سيف الله المسلول أن يعبر إليهم النهر حتى لا يكشف ظهر جيشه ويحاصَر في مكان ضيق، فعبرت جموع التحالف له في يوم 15 من ذي القعدة، فانقض عليهم المسلمون كالأسود الكاسرة، فاضطربت صفوفهم وانكشف تحالفهم فولوا الأدبار، لينهزم أمام المسلمين أكبر تحالف ضم الفرس والروم.
واليوم -ونحن نستحضر هذه الذكريات المباركة- يجتمع البغاة على أهل غزة من كل مكان، وهم أيضًا في هذه المرة يتسلحون بنفر من أبناء جلدتنا ممن يتكلمون بألسنتنا ويتسمون بأسمائنا، وقد باتوا خنجرًا يطعن المجاهدين ويثبط العاملين ويعرقل كل ساعٍ إلى نهضة الأمة، ولكننا بفضل الله تعالى نستبشر وكلنا أمل ورجاء أن تنكسر جيوش الحلفاء كما انكسرت شوكة الأقدمين، وأن تنجح الشعوب الإسلامية في الخلاص ممن يتسلطون على مقدراتها.
لن تسقط الراية
إن البداية الحقيقية لانتصار الأمة وخلاصها من أعدائها لابد أن تمر من غزة؛ حيث يتوجب على الأمة أن تظاهر أهلها وتساند صمود شعب أبِيٍّ يتشبث بمقاومته ويحرص على بقائها وبقاء سلاحها وحمايتها وفدائها، ولا يسمح بسقوط الراية التي يلتف حولها المجاهدون وينضوي تحتها الصامدون، ويتطلع لها الأحرار في كل مكان.
إن حلفاء اليوم من أكابر المجرمين والمنافقين ومن ظاهرهم من بني جلدتنا يسعون بكل قوة ويبذلون كل الوسع لنزع سلاح المقاومة أو تسليمه، وهيهات فهم لا يعلمون أن هذا السلاح هو ما تبقى من شرف الأمة، ولا يدركون أن العبرة ليست في تلك البنادق الصغيرة ولا هذه الأدوات البسيطة، وأن العبرة كل العبرة في هؤلاء الأبطال الذين حولوا ما بأيديهم من سلاح محدود إلى جحيم أقضَّ مضاجع الاحتلال وغيّر معادلات المنطقة وأربك حسابات القوى الكبرى في العالم، وفاق سلاحُهم سلاح الجيوش النظامية وترسانات الأسلحة المتكدسة التي علاها الصدأ أو فقدت مفعولها في مخازن الدول العربية، في ظل حالة من الصمود الأسطوري للمقاومة والثبات غير المسبوق والجلَد الذي لا يعرف التهاون أو التنازل.
إن الحديث عن نزع سلاح المقاومة لم يعد اليوم مطلبًا صهيونيًّا أو رغبة أمريكية فحسب، ولكنه بات محل رضا علني من النظام العربي الرسمي، حيث تبدو الانحيازات واضحة وتتجلى الكارثة بلا مواربة وتتبين الحقائق غير منزوية؛ لتدرك الشعوب ويدرك العالم أن المواقف الرسمية العربية اليوم باتت هي العقبة الكؤود أمام تحرير فلسطين، وحجر العثرة أمام المقاومة، فهي لا تكتفي بحجب المساعدات عنها أو الامتناع عن تقديم الزاد إليها أو توفير الإسناد لها، ولكنها تسعى حثيثًا لحرمان المقاومة مما في يدها من أوراق، وإضعاف موقفها وتثبيط عزيمتها، وشن الحملات الإعلامية الكاذبة على المقاومة وعلى كل من يدعمها حتى معنويًّا أو لوجستيًّا بينما يصمتون صمت القبور عن تدفق المساعدات للاحتلال بلا حساب من العواصم الغربية والإدارة الأمريكية.
لقد حفل التاريخ الحديث ومنذ أربعينات القرن الماضي بتضحيات غالية وأدوار عزيزة للشعوب العربية، خاصة من دول الطوق التي بذلت وسعها وقدمت ما لديها من دعم ووفرت أرضها منصة لانطلاق المقاومة، فعلى الجبهة المصرية انطلقت جماعة "الإخوان المسلمون" بكتائبها المباركة ورجالها الأبطال ليلقنوا العدو دروسًا قاسية قبل أن يتآمر عليها المتآمرون، ثم من بعدهم خاض الجنود المصريون معركة الكرامة في العاشر من رمضان السادس من أكتوبر؛ ليوجهوا لطمة للعدو قبل أن تأتي سنوات التطبيع والتنازل؛ لتعرقل استمرار هذه الملحمة!
وعلى الجبهة الأردنية فتح الشعب الأردني مسارًا للمقاومة الباسلة خلال عقود من الزمان حيث شاركت جماعة "الإخوان المسلمون" من خلال حركة فتح، بمتطوعين من كل من مصر وسوريا واليمن؛ ليقوموا بواجب المقاومة لهذا الكيان اللقيط، بل واصطف الشعب الأردني والمقاومة خلف الجيش الأردني في معركة الكرامة وحاصروا قوات الاحتلال في غور الأردن .
إن التضحيات الغالية التي بذلتها الشعوب على أرض فلسطين المباركة وخاصة من خلال دول الطوق، سواء في الجبهة المصرية أو الأردنية، أو غيرها من الدول العربية، تصطدم اليوم بأسوار وحواجز فولاذية تفرضها وتحرسها الأنظمة التي تمنع تحركات المقاومة وتقف لها بالمرصاد، دون أن تقوم بواجبها في إسناد الشعب الفلسطيني وإنقاذه من الإبادة الجماعية التي يشكل السكوت عليها خطرًا وجوديًّا للمدن العربية جميعًا واستباحة غير مسبوقة لشعب عربي كامل.
إن الجريمة التي ترتكبها سلطة الانقلاب على الجبهة المصرية -التي تمثل الشريان الوحيد لأهل غزة وطريقهم إلى العالم من خلال معبر رفح- لن تنساها ذاكرة الشعوب؛ حيث يتم منع دخول كافة احتياجات القطاع من الغذاء والشراب والدواء، في انتهاك فاضح للقانون الدولي الإنساني الذي يلزم دول الجوار بكسر الحصار حال وقوع مذابح أو حال وقوع كوارث أو حال وقوع مجاعة، وفي مخالفة صريحة لقرار منظمة التعاون الإسلامي الذي اتخذته الدول الإسلامية والعربية بوجوب كسر الحصار وإدخال المساعدات، بل على العكس من ذلك نجد سلطة الانقلاب تسمح بدخول الآلاف من الصهاينة المعتدين إلى أرض الفيروز ليحتفلوا بأعيادهم، في الوقت نفسه الذي يتعرض فيه إخواننا في قطاع غزة على يد هؤلاء المجرمين للقتل والتدمير.
إن أشواق الشعوب الإسلامية والعربية التي تترقب التحرك نحو تحرير فلسطين والمسجد الأقصى لن ترضخ طويلًا لهذه القيود ولن تقف عند هذه الحدود، ولكنها ستنطلق -في لحظةٍ- هادرةً لا تلوي على شيء سوى لنصرة الشعب الأبي ولتحرير المقدسات (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت: 69).
الاستبداد بمباركة دولية
وفي مصر ما زالت يد الانقلاب الغاشمة تعمل عملها وتستمر في طريق غيها قتلًا وتشريدًا وتعذيبًا داخل السجون، وحرمانًا للمعتقلين من أبسط حقوقهم، وتنكيلًا بكل شرفاء الوطن الرافضين للفساد وتغوُّل السلطة المستبدة على مقدرات الوطن، وإهدارها لأصول الدولة وثرواتها. ومع تزايد وتيرة الإبادة في غزة تتصاعد وتيرة الاضطهاد والظلم والقمع والتعذيب وشن حملات اعتقالات واسعة ضد المصريين بشكل ممنهج نمطي تمارسه السلطة المستبدة ضد الشعب المصري؛ فتزيد من بطشها لوأد كل صوت يرفض جرائمها أو يفضح عمالتها وانضواءها تحت راية الاحتلال.
إننا نقف في مصر اليوم أمام حقبة من الزمن سيشهد التاريخ بأنها من أسوأ المراحل التي مرت عليها؛ بين اقتصاد منهار، ودولة غارقة في الديون، وإدارة فاشلة، وتفريط في مقدرات الوطن، وتوسع في سياسة الإغلاق للشركات الناجحة وتسليمها للمستثمرين الأجانب بثمن بخس، في وقت تنشط فيه السلطة المستبدة في بناء السجون والمعتقلات والتي تمت زيادتها منذ عام 2013م لتصل إلى 57 سجنًا، من بينهم سجن عمومي، وليمانان، بالإضافة إلى 3 سجون شديدة الحراسة، و5 مجمعات سجون لما يسمى بمراكز إصلاح وتأهيل تضم 27 مركزًا، بالإضافة إلى 24 سجن مركزي، بخلاف إرسال آلاف المخبرين السريين لتتبع المصريين في الخارج، كما يتم في الداخل ووقف وعرقلة إصدار الوثائق الثبوتية للمصريين المقيمين بالخارج- بطاقات الرقم القومي وجوازات السفر- في تصرف لا علاقة له بقوانين أو احترام لحقوق المواطنين .
أما عن المعتقلين وأحوالهم فحدّث ولا حرج، فقد قامت السلطات بإعدام 105 معتقلين سياسيين إلى الآن، وتسببت بوفاة 910 معتقلين، سواء بسبب حرمانهم من حقهم في الرعاية الصحية أو تحت وطأة التعذيب، فضلًا عن أعداد المعتقلين التي تتزايد باستمرار حتى فاق العدد 60 ألف معتقل وأكثر من 12 ألف مختفٍ قسريًّا ينتمون لكافة الأطياف السياسية والشعبية.
أما النظام العالمي والمؤسسات الدولية فتقابل هذه الانتهاكات التي تحدث في مصر وغيرها من البلدان العربية بالصمت الذي يعد نوعًا من تمرير هذه الجرائم وتشجيعها، حتى إنها أوقفت كثيرًا من تلك التقارير التي كانت تصدر عن أوضاع حقوق الإنسان في العالم من خلال دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، بل صنفت دولًا سيئة السمعة في العدالة وحقوق الإنسان بأنها "آمنة، ولا تُقبل طلبات اللجوء منها"، بما يعد نوعًا من الشراكة والمباركة لهذه الانتهاكات، التي لم يكن آخرها ما يقع في مصر من جرائم بحق المعارضين، وما يصدر ضدهم في تونس من أحكام مشينة، وما تنفذه الأردن من حملات اعتقال ممنهجة بحق الرافضين لجرائم الاحتلال في غزة.
إن صباح الشعوب سيشرق قريبًا من جديد وستنزوي حينها هذه النتوءات وتختفي تلك الأنظمة الإجرامية التي تقهر شعوبها، في الوقت الذي تلين فيه كل اللين وتميل كل الميل لأعداء الأمة، فلن يطول ليل الظلم، وسيبزغ نور الحرية والخلاص.. {وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ ۖ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا} (الإسراء: 51).
واللهُ أكبرُ وللهِ الحمد
أ. د. محمود حسين
القائم بأعمال فضيلة المرشد العام لجماعة " الإخوان المسلمون "
اﻹثنين 30 شوال 1446 هجرية - الموافق 28 أبريل 2025م