الصورة غير متاحة

الحسيني الشامي

 

قابلني أحد جيراننا والأسى يعلو وجهه ".. الحاج مصطفى بيسأل على والدك.. ومستغرب اللي بيحصل.."، والحاج مصطفى هو أحد ثلاثة- منهم والدي- لهم مكان محدد ثابت في الصف الأول بالمسجد الجامع في حينا، هذا المكان الذي افتقده فيه الجميع منذ أن نالته يد الظلم الآثمة، وأبعدته عن مكانه المفضل إلى خلوة مع الله بسجن المحكوم بطرة.

 

كان للقرآن وصلاة الجماعة والصف الأول موقعٌ خاصٌّ في حياة أبي، فمنذ نعومة أظفارنا يتذكر الجميع (الكُتََّاب) الذي أقامه في مسقط رأسنا، يعلم فيه البنين والبنات كتاب الله وسنة رسوله، ولا يدخر جهدًا- خاصة معنا في البيت- في هذا الشأن، وكان يحفزنا دائمًا على ختم كتاب الله حفظًا، وكان يوم ختم أحدنا للقرآن عيدًا، فضلاً عن الروح التي يتعامل بها مع كتاب الله.. تلك الروح التي غرس بها حب القرآن في نفوس كل من سمع منه آية، أو صلَّى خلفه في جماعة.

 

أتذكر بين الحين والآخر أنه كان يتلو علينا آية وقف معها في تلاوته، ويفيض علينا بما فتح الله عليه من خواطر حولها، ويسمع منا ونسمع منه، أذكر كيف كان يصر على إيقاظنا فجرًا، واصطحابنا معه إلى المسجد منذ أن كنا صغارًا.. أتذكر سورتي "السجدة" و"الإنسان" بصوته الندي، فجر كل جمعة، أتذكر حين كان يجمعنا نتلو سورة الكهف قبيل صلاة الجمعة، أتذكر حين كنت أستيقظ في صغري قبيل الفجر لأجد أبي بصحبة أمي يقومان الليل في خشوع ودموعهما على خديهما.

 

اختلفت طريقة أبي معنا بعد أن كبرنا، فكان يسشعر دائمًا الفرق بين وقع التوجيه المباشر على الطفل وعلى المراهق أو الشاب، فكان تكاسل أحدنا عن صلاة الجماعة لا يقابله توجيه مباشر إنما يكفي أن تجده قد انتفض من فراشه وقت القيلولة حين أذان العصر، وقبل أن يختم المؤذن أذانه خمس مرات يوميًّا تجده خارجًا من دورة المياه تقطر من أعضائه مياه الوضوء الطاهرة، وكأن ساعته البيولوجية قد اغتدت بوقود من الروح الإيمانية؛ ليتم ضبطها تلقائيًّا مع صوت المؤذن، والصف الأول.

 

ولرمضان شأن آخر، فختم القرآن عددًا من المرات هو المعتاد، مع إذكاء روح التنافس بين أفراد الأسرة، وإشاعة تلك الروح في التجمعات العائلية خلال الشهر الكريم، تسمعه في الصلوات خاصة في التراويح يتلو بصوت عذب، ينساب في عروق المصلين، ويسري فيها بدماء الخشية، لا يمل أحد من الصلاة خلفه، تشعر بحقيقة الألوهية في ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ﴾ (الأنعام: من الآية 59)، ويقشعر بدنك في ﴿أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (19)﴾ (الرعد) ويطمئن قلبك وتصفو نفسك في ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ (الطلاق: من الآية 3).

 

من يعرفه يعرف تلك الآيات جيدًا والروح الجديدة التي تسري في نفسك وأنت تسمعها منه في كل مرة منذ أن كان يصحبنا معه في معتكفه منذ أكثر من عشرين عامًا حتى الآن، بعد الإفطار وقبل صلاة العشاء كان لا بد أن يغادر إلى مكانه المفضل في الصف الأول، ولكن، أين هو في رمضان اليوم؟!

 

أبي وحبيبي وقرة عيني وأخي وقدوتي ومعلمي، نعاهدك أننا سنرى الله من أنفسنا خيرًا في هذا الشهر الكريم، وأن القرآن الكريم سيكون زادنا وطعامنا وشرابنا كما غرست فينا، وأننا سنحاول قدر إمكاننا أن نملأ ما نستطيع من مكانك في الصف الأول، وإن كان يئن بانتظارك!!.

 

أيها الصف الأول في مسجدنا، أعلم أنك ستفتقد أبي كما نفتقده، كما يفتقده المصلون وسماعات المسجد وأرفف المصاحف وسجادة الصلاة، عذرًا أيها الصف الأول، سيظل مكان أبي فيك شاغرًا إلى حين، ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: من الآية 21).

------------

* طبيب عيون

* أحد أبناء معتقلي مجموعة الـ13