يجري ابني يحيى الصغير داخل مكتب رئيس النيابة، ويلاحقه عسكري، ويضاحكه المحامي، ويقول له: "مستعجل على إيه يا يحيى؟!" يتصنَّع الجميع الابتسامة داخل سرايا النيابة بالتجمع الخامس، في أولى جلسات التحقيقات في القضية رقم 202 أمن دولة عليا، وتعلو ضحكات الدكتور عصام العريان والدي.. الخطير جدًّا على الأمن القومي!!.. فمن أسفٍ شديدٍ تعيش أسرتنا من جديد سيناريو مكرَّرًا لفيلم ماسخ من إنتاج وزارة الداخلية؛ يقضي باعتقال الشرفاء وأبناء مصر المخلصين.

 

وتبدأ زيارتنا الأولى للوالد العزيز في أول يومٍ له في التحقيقات التي رفض أن يدلي فيها بأي أقوال بعدما تكلَّم من قبل 200 ساعة، وحوكم على نفس التهم 7 سنوات متفرقاتٍ، ويحاول بنفس هادئة مشفقة أن يخفِّف عنا هذا الجو الكئيب الذي مهما حاولنا التعوُّد عليه سيظل دومًا مؤلمًا، ونحن نرى اليد الحانية وهي تُغَلُّ بأسوار الحديد.."كل سنة وانتِ طيبة يا حاجة فاطمة".. يقولها والدي وهو حزينٌ أن تكون في هذا المكان في هذه الأوقات.

 

وتصرُّ والدتي على أن تسأل أسئلتها الشائكة المتكررة والمشفقة: لماذا اعتقلوكم؟ ولماذا هذه المجموعة بالذات؟ ما التهم هذه المرة؟ ولماذا هذا التوقيت؟ هل بسبب انتخابات مكتب الإرشاد أم بسبب انتخابات الشورى والشعب؟!

 

يضحك أبي ضحكةً عاليةً، ويقول لأمي: "بقى يا حاجة بعد 30 سنة وانتِ بتسألي نفس الأسئلة زي النيابة بالضبط؟!! أنا مش قلت لك قبل كده إن الأسئلة دي ملهاش إجابة حتى عند أمن الدولة، المجنون يحيرك أمره، ما تشغليش بالك يا حاجة، كل سنة وانتِ طيبة".

 

وأخرج من جيبه كتابًا صغيرًا يحبه، وقلَّب صفحاته وقرأ لنا منه هذه الحكمة بعدما سألناه وكلنا إشفاق: "هايعملوا فيكو إيه؟!": "الغافل إذا أصبح ينظر ماذا يفعل، والعاقل يصبح ينظر ماذا يفعل الله به"، فالغافل مشتغلٌ بتدبير نفسه، مصروفٌ عن النظر إلى مولاه، فهو حقيقٌ بأن يكله الله إلى نفسه فيتشتَّت عليه قلبه، وينغِّص عليه مراده، أما العاقل فيقول: ماذا يفعل الله بي؟ فهو ناظرٌ إلى الله تعالى وإلى ما يرد عليه منه؛ وذلك لوجود عقله ودوام يقظته، فلا جرمَ أن يكفيه الله تعلُّقات الآمال، ويفرغه من جميعِ الأشغال، ويقرَّ عينيه بما يقيمه فيه من أعمال أو يورده عليه من أحوال، وهذه سعادة عظيمة، وقول عمر بن عبد العزيز: "أصبحت وما لي سرور إلا في مواقع القدر".

 

وبعد هذا الكلام أعاد علينا قراءة الحكمة مرتين لنفهمها، ونحاول أن نعيش على معناها: "المهم.. طلبات كل مرة يا أولاد: بطانية، الجرائد، أقلام، ورق مسطَّر، راديو موجة متوسطة للـ"بي بي سي" والبطاريات، وكتاب "فتح الباري- الجزء الأول"، الحمد لله ربنا رزقنا بأستاذ حديث في الأزهر يدرِّس لنا ونستفيد من وقتنا، وعلى العموم إحنا طلبنا نترحَّل على سجن المزرعة، فأنت في مصر لك مطلق الحرية أن تختار المكان الذي تُقيَّد فيه حريتك".

 

ارتسمت مرةً أخرى على وجوهنا ابتسامةٌ حزينةٌ من عبارته الساخرة، وحاولنا أن نعرف إلى أي سجن سيتمُّ ترحيله، لكنْ من الواضح أنه كان في هذا الوقت سرًّا حربيًّا.. غادرنا بعد السلام والكلام وفي أنفسنا غصَّة ومرارة إحساس شديد بالظلم، وبعد توصياته الأخيرة لكلٍّ منا بأن يكون أفضل.. صلاة الفجر، المعمل، الماجستير.. هذا كان نصيبي.

 

وفي طريق العودة حالةٌ من الصمت والسكون، وكأننا في حلم أو كابوس، والكل يُفكِّر في الوصية الأخيرة التي أوصانا الوالد بها.. "تورتة عيد الميلاد".

---------

* نجل الدكتور عصام العريان.